إغلاق قناة توكل كرمان.. تركيا تعلن نهاية مرحلة الإخوان على شاشاتها
في خطوة أثارت موجة واسعة من التساؤلات داخل الأوساط اليمنية والعربية، أعلنت قناة ‘بلقيس’ التلفزيونية، المملوكة للناشطة اليمنية توكل كرمان الحائزة على جائزة نوبل للسلام والمنتمية إلى تيار الإخوان المسلمين، توقف بثها وإغلاقها “لظروف قاهرة”.
ومع أن البيان الذي أصدرته القناة بدا مقتضباً وعمومياً، إلا أن القرار فتح الباب أمام قراءات سياسية متعددة، خصوصاً في ظل المناخ الإقليمي الراهن وحساسية موقع تركيا التي تستضيف القناة منذ تأسيسها قبل نحو عقد، فالقرار يأتي في لحظة تواصل فيها أنقرة جهودها لاستعادة التوازن في علاقاتها مع دول الخليج ومصر، بعد سنوات من القطيعة والتوتر بسبب احتضانها عدداً من رموز الإخوان وأنشطتهم الإعلامية التحريضية.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى إغلاق قناة ‘بلقيس’ باعتباره حلقة جديدة في سياسة تركية تسعى تدريجياً إلى كبح الأنشطة الإعلامية والسياسية التي تحمل خطاباً صدامياً يتعارض مع توجهات المصالحة والانفتاح التي تعمل عليها تركيا منذ عامين.
مسار ينتهي بصمت مفاجئ
ومنذ انطلاقها في مايو/ايار 2015 من إسطنبول، اتخذت قناة ‘بلقيس’ خطا تحريريا يدور في فلك حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي كانت توكل كرمان إحدى أبرز وجوهه قبل أن تتفرغ للنشاط السياسي والإعلامي. واستمرت القناة على هذا النهج طيلة عشر سنوات، قدمت خلالها محتوى مشحوناً بخطاب سياسي حاد، خصوصاً تجاه دول عربية اعتبرتها كرمان “ضد الثورات” أو “داعمة للاستبداد” وهي عناوين شكلت غطاء للأجندة التخريبية التي تقودها.
لكن البيان الأخير الذي أعلنت فيه القناة توقف بثها جاء خاليا من أي تفاصيل، مكتفيا بعبارات “ظروف قاهرة وخارجة عن الإرادة” من دون توضيح طبيعة هذه الظروف، ما جعل كثيرين يشككون في الرواية الرسمية ويربطون القرار مباشرة بالتحولات السياسية في تركيا نفسها، أكثر من ارتباطه بأزمة مالية أو إدارية داخل المؤسسة الإعلامية.
ومنذ 2021، بدأت تركيا تخفف تدريجياً من حضور الإخوان المسلمين على أراضيها، سواء عبر الحد من الأنشطة السياسية أو عبر ضبط الأداء الإعلامي لقنوات وشخصيات محسوبة على الجماعة. وشملت هذه السياسة توقف برامج وإعادة هيكلة مكاتب قنوات محسوبة على التنظيم الدولي، وإبلاغ عدد من الشخصيات الإعلامية بعدم تجاوز “الخطوط الحمراء” مع دول الخليج ومصر.
وفي ضوء هذه التحولات، يبدو قرار وقف بث ‘بلقيس’ منسجماً مع توجه تركي مستمر نحو تطبيع شامل مع الدول العربية، خاصة السعودية والإمارات ومصر، وهي دول طالما حرضت عليها توكل كرمان بشدة في تصريحاتها وظهورها الإعلامي وخطابها عبر المنصات الرقمية. ومن هنا، يطرح كثيرون فرضية أن أنقرة “انزعجت” من الخطاب التحريضي للقناة، خاصة في ملفات حساسة لا ترغب تركيا في أن تظهر وكأنها منصة لتأجيج الصراعات أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.
بيان صادر عن قناة بلقيس
قناة بلقيس تعلن توقف بثها التلفزيوني لأسباب قاهرة خارجة عن إرادتها
—-
أعلنت قناة بلقيس الفضائية اليوم الجمعة توقف بثّها التلفزيوني، وذلك لأسباب قاهرة وخارجة عن إرادتها بعد عشرة أعوام من العمل المتواصل في نقل الحقيقة وتغطية الشأن اليمني.وانطلقت… pic.twitter.com/02Fltq03He
— قناة بلقيس الفضائية (@BelqeesTV) November 28, 2025
ومنذ حصولها على جائزة نوبل للسلام عام 2011، حاولت توكل كرمان تقديم نفسها كمدافعة عن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، لكن مسيرتها خلال العقد الأخير أخذت منحى أكثر تصادماً وإثارة للجدل، إذ رُبطت كثير من مواقفها بتوجهات جماعة الإخوان المسلمين، سواء في اليمن أو خارجه.
واتُّهمت كرمان مراراً بالتحريض على الفوضى في دول عربية، من بينها المغرب، الذي اتخذت فيه مواقف وصفت بأنها “دعوة مباشرة إلى العنف”، كما حدث في تغريداتها التي دعت فيها إلى “الثورة والانتفاضة” ضد النظام المغربي، ما دفع نادي المحامين بالمغرب إلى تقديم شكوى جنائية رسمية ضدها لدى النيابة العامة التركية بتهم التحريض على الإرهاب والعنف والإساءة.
كما سبق لهيئة المرأة العربية أن طالبت بسحب جائزة نوبل منها بسبب “خطابها المعادي لوطنها وللدول العربية” وارتباطها بتنظيم الإخوان الذي تصنفه عدة دول كتنظيم إرهابي. وتؤكد الهيئة أن مواقف كرمان “تناقض جوهر الجائزة التي يفترض أنها مُنحت لمن يعزز قيم السلم والتعايش”.
وهذه الاتهامات المتراكمة جعلت الكثيرين ينظرون إلى كرمان باعتبارها شخصية ابتعدت عن مسار الدفاع عن حقوق الإنسان ودخلت في دائرة التحريض السياسي الممنهج، بما يخدم أجندات أوسع من النشاط الحقوقي أو الإعلامي.
ويشير السياق الإقليمي إلى أن تركيا أصبحت أكثر حساسية تجاه أي خطاب إعلامي يمكن أن يعرقل جهودها لإعادة ترميم علاقاتها مع دول الخليج ومصر. ومن هذا المنطلق، فإن القناة التي تبث من أراضيها كانت دوماً مرصودة، سواء من الجهات التركية الرسمية أو من الحكومات العربية المتضررة من خطابها.
وغياب أي تفسير مفصل عن أسباب الإغلاق يعزز احتمال أن الخط التحريري للقناة وارتباطه بخطاب توكل كرمان قد أصبح عبئاً على أنقرة، خصوصاً في اللحظة التي تسعى فيها تركيا لإغلاق ملف الإخوان إعلامياً وسياسياً، أو على الأقل تحجيم تأثيره وعدم منحه مساحة تُحسب عليها.
ولا يبدو قرار إغلاق قناة ‘بلقيس’ مجرد خطوة إعلامية تقنية، بل مؤشر على تحول أوسع في التعاطي التركي مع رموز الإخوان وأنشطتهم. كما يكشف عن مأزق توكل كرمان نفسها، التي وجدت أن المساحة التي كانت تتمتع بها لم تعد مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأن خطاب التحريض الذي كانت ترفعه باسم “الحرية” لم يعد مقبولاً حتى في البلد الذي احتضنها.
ومع استمرار القناة عبر منصاتها الرقمية فقط، يبدو المشهد اليوم وكأنه بداية مرحلة جديدة، تتقلص فيها المنابر التي كانت تستغل شعار حقوق الإنسان لتسويق خطاب سياسي حاد، بينما تعيد تركيا رسم خطوطها الحمراء بما يتناسب مع أولوياتها الجديدة في المنطقة.







