أذربيجان بين عمائم إيران ومكر أردوغان
في كثير من الملفات الساخنة في المنطقة سعى الطرفان التركي والإيراني، المتناقضان واقعياً، أيديولوجياً وقومياً، إلى القفز على الموروث التاريخي الحافل بالعداء والدم، وقد تمكّنا، بحدود معينة، من تحقيق معادلة قائمة على “وحدة الأطماع وفكرة العدو الواحد” الذي هو في الواقع الدولُ العربية في المنطقة، فاقتربا وبلورا تفاهمات ترتكز على هذه النظرية دون أن يتمكّنا من إزاحة الإرث الثقيل عن كاهليهما والذي يغذي أطماعَ كل منهما على حدا، فكلاهما يعلن عداءه لمحيطه العربي، وينخرط في حروب مباشرة وأخرى غير مباشرة ضد دول عربية هنا وأخرى هناك من المحيط إلى الخليج .
ثمة مرتكزاتٌ أساسية تدفع كلاًّ من تركيا وإيران إلى التناقض بشكل صارخ في الصراع بين أذربيجان من جهة وأرمينيا من جهة أخرى على إقليم ناغورني قاراباخ. تلك المنطقةُ المشتعلة تشكل محرّضا لكل منهما كي يعمل من أجل تحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر، ومع وجود عوامل ضاغطة بيد كل طرف ضد الآخر فإن الخط البياني للافتراق بينهما يتخذ منحىً تصاعديا. تركيا – أردوغان وجدت في الحرب الأذربيجانية الأرمينية ضالتها للتسلل كعادتها إلى تلك المنطقة الحيوية من قلب آسيا بما تتمتع به من خيارات استراتيجية يمكن أن يستغلها أردوغان لإضافة مزيد من الأوراق إلى جعبته وتعزيز نهجه ومخططاته التوسعية وممارسة سياسة الابتزاز هذه المرة ضد شركائه في أكثر من ملف، كروسيا وإيران، وهو يعتبر أن الحربَ الدائرة بشأن إقليم ناغورني قاراباخ نافذةٌ جديدة يطل من خلالها على مناطق نفوذ جديدة، ولهذا جاءت مواقف أنقرة منحازة بالمطلق للجانب الأذري لتحملَ من الدلائل الكثيرَ حيال ما تسعى إليه لجهة خلق بؤرة توتر وساحة فوضى مقلقة لعواصم الدول القريبة منها أو المحيطة بها. الأسلوب التركي الأردوغاني لم يعد مفاجئاً لأحد في تعاطيه مع أزمات من هذا النوع ؛ فهو يقوم على التحريض والدفع باتجاه الفوضى واستخدام أدوات محلية لتحقيق مكاسب سياسية وميدانية لا تلبث أن تتحول إلى مرتكزات لسياسته التوسعية .
خروجُ النظام الإيراني عن صمته حيال تطورات المشهد في ناغورني قاراباخ، والإفصاح عن الخوف والقلق من اقتراب من وصفهم الرئيس الإيراني بالإرهابيين من حدود بلاده المتاخمة لبؤرة الصراع، يعكس قلقاً جدياً، وهذه المرة ليس من الزحف التركي على الإقليم القريب من حدودها فحسب، بل يدفعه قلقٌ استراتيجي بشأن حقبة ما بعد القتال الجاري حاليا؛ مردّه أن أردوغان يعزز خطوطَ القتال في تلك الجبهة بمسلحين ومرتزقة يعملون تحت عباءته من غير جنسيته، وكثيرٌ منهم ضحايا لسياسة طهران، ويكتنزون استعداداً ضمنيا لمشاغلة إيران بشكل مباشر أو غير مباشر، وهاهم اليوم على تخوم خطوط مواجهة مباشرة معهم .
هل تكون حربُ قاراباخ بداية افتراق الطرفين ؟ ماذا يمكن لطهران أن تفعله بعد أن يضع العثماني الجديد أقدامه في أحد حدائقها الخلفية ؟ هل التدخل الإيراني عسكريا بات وارداً لحماية مصالحها وضمان حقوقها في الإقليم بعد أن توسعت نزعةُ الهيمنة التركية ؟ ما هي عواملُ القوة الإيرانية هناك مقابل التمدد التركي المتنامي ؟ هل يقبل أردوغان بتقاسم النفوذ مع ملالي إيران في أذربيجان دون مواجهة أو قتال ؟ هل يمكن أن تتأقلم طهران مع “ستاتيكو” جديد للمنطقة يفرضه عليها الجانبُ التركي ؟ .
المجالُ الحيوي في تلك المنطقة يميل لمصلحة النظام الإيراني بحكم الجغرافيا، لكن ذلك لا يعني قدرتَها على امتلاك زمام المبادرة أو التحكم بمسار الأحداث بعد انخراط غريمتها تركيا في الميدان، وتفجير صواعق أزمات كامنة تاريخياً، بموازاة ذلك لا يبدو الاندفاعُ التركي ميدانياً ودبلوماسياً حائزاً لمقومات تطويع الموقف الناشئ في الإقليم على المسرحين الإقليمي والدولي لصالحه، فليست أذربيجان على قلب واحد في تحالفاتها، وليست أرمينيا لوحدها على مسرح الأحداث دون شركاء وداعمين، كما أن أعداء ومناوئي نزعة أردوغان التوسعية سيجدون في الاشتباك الحاصل على أراضي ناغورني قاراباخ فرصة سانحةً لتعميق مصاعبه عبر أساليب متعددة أقلُّها إطالة أمد الصراع ميدانيا حتى يثقلون عليه في أكثر من جانب . التذبذب الإيراني في مواجهة الطغيان التركي في هذه الأزمة يبعث على التساؤل عن أدوات طهران وخياراتها حول آفاق الصراع ومرحلة ما بعد صمت البنادق والمدافع؛ لن ترضى تركيا أردوغان منازعةَ نظام العمائم لها على الغنائم دون ثمن لابد من دفعه، والنظامُ الإيراني لن يستطيع انتزاعَ اعتراف أنقرة بمصالحه دون تسديد ما يتوجب عليه، وكلما تقلصت خياراتهم كلما ارتفع منسوب الاحتقان وتقدم خيار المواجهة المباشرة أو غير المباشرة عبر دعم المناهضين للمشروع التركي .
الطرفان التركي والإيراني يرزحان تحت ضغوط سياسية واقتصادية قاسية، داخلية وخارجية، تزداد مع مرور الأيام بشكل مطّرد تساوقاً مع سياسة كل منهما التوسعية في الإقليم. كل منهما مأزومٌ ويبحث عن ممر عبور خارجي يسعفه لإنعاش نظامه. أردوغان اختار سلوكَ طريق الحرب في قاراباخ لتخفيف الضغوط الدولية التي يواجهها في المتوسط، وطهران تبدو حائرة بين البقاء متفرجة وغريمها يتمدد وبين التورط في صراع لا تعرف منتهاه ولا تمتلك مقومات الظفر بنتائجه .
ملامحُ الافتراق التركي الإيراني جراء الحرب الدائرة حول إقليم ناغورني قاراباخ وما تنطوي عليه من تهديدات للجانب الإيراني بجميع مواصفاتها وأبعادها تتراكم . حاولت طهران كتمَ غيظها إزاء التصعيد التركي كي لا تذهب إلى حدود المواجهة الدبلوماسية مع أردوغان كونه الراعي الرئيسي لعملية الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على إيران وخرقها، لكنها بدأت تتحسّس من أن نيرانَ الحرب وألسنةَ اللهب المتصاعد هناك تلفحُ وجهها بعد أن أمعن أردوغان في تغذيتها وتأجيج أوارها حتى باتت تلامس عمق الأمن القومي الإيراني .
نقلا عن العين الإخبارية