خروج عشرات آلاف المتظاهرين العراقيين الغاضبين في البصرة وبغداد تضامناً، هو الصرخة الأولى نتيجة الوجع الذي عانى منه الشعب العراقي لسنين بسبب ثقل الكاهل الإيراني عليهم. استنزاف طهران للعراق لعقود من الزمن تحت غطاء الطائفية، وصل حده اليوم وانقلب إلى الضد. انتهى مفعول التخدير الإيراني في العراق وانقلب السحر على الساحر، عشرات السنين مضت وهمّ “الجمهورية الإسلامية” التي قامت على أسس لا شرعية لها، بانقلاب على الشاه الذي كان يمضي داخل منظومة المنطقة بشكل متوازٍ نحو بناء بلد ليبرالي متحضر، مع حرص كبير على حسن العلاقات مع بلدان الجوار. قبل أن تأتي غيمة الثورة الإيرانية السوداء، والتي أمطرت بذور الحقد على تراب وشعب الدولة الفارسية، حقد وكره غذّته حكومة تلو الأخرى، بتعزيز الفوقية والكبر والترفع على أبناء المنطقة، وعلى أصدقائها وشركائها، حقد نرى اليوم نتائجه سياسياً خاصة أيديولوجيا. لكن لو أن الدولة الفارسية التي عملت على عزل نفسها وترسيخ أيديولوجيتها داخل دولتها فقط، لكان الأمر أسهل على الشعب الإيراني لاسترداد حريته وحقوقه التي تنتهك بشكل يومي. السلطة في إيران أو تسلط العباءة أخذ أكثر من حجمه، إلى حد خانق. وننتظر قريباً انتفاضة هذا الشعب المختنق، لأنه لم يعد قادراً على التنفس، لا من ناحية حقوق الإنسان والحريات الشخصية، بل أيضاً على المستوى المعيشي حيث يمر الاقتصاد الإيراني بأسوأ أزماته التي تسير نحو الانهيار قريباً، حسب آخر المؤشرات. والخطر الإيراني الحقيقي هو لا ينحصر في سياسات الحكومة الداخلية والتي تسيرها عقول الفساد من تحت العمائم، لكن نثر بذور الحقد والكراهية بين الشعوب. واستغلت طهران التنوع الطائفي في بلداننا العربية المسلمة، والتي شهدت ولعقود من الزمن انسجاماً اجتماعياً لا مثيل له سواء بين مختلف الطوائف أو الأديان، لتزرع الحقد في النفوس وتشتري الذمم. بدأ مفعول السحر الأسود الإيراني في الانقسام الذي أحدثته بين العراقيين سنة وشيعة، وخلق تفرعات متخالفة حتى في كل طائفة فنرى عشرات التوجهات الدينية التي تحمل الحقد والبغض وشرعية قتل الآخر لمجرد أنه مختلف. وإذا ما رصدنا أهم الجماعات الإرهابية والانقسامات داخل دولنا العربية، ولنأخذ فقط نماذج العراق وسوريا لرأينا الحضور الإيراني الذي عمل بكل خبث وجهد ومال لإيقاع الخراب والدمار وانقسام حاد داخل الشعب سيحتاج علاجه إلى عشرات السنين، أما عن إعادة البناء وإعادة هذه الدول غير مفتتة على خريطة العالم فهذا حلم بعيد المنال. خطر قديم جديد دخل على خط النزاع بقناع قديم جديد، إنه الخطر الأردوغاني والذي من المفترض أنه يحمل أيديولوجية مناقضة تماماً لنظيره الإيراني، لكن شاءت الأقدار أن تجمعهما نفس الفريسة، ونفس الطموح والمطامع، ولئن يبدو في الظاهر تحالف إيراني تركي ومصالح مشتركة، إلا أن الاختلاف حول قصف إدلب واجتماع طهران الأخير يعكس عمق الخلافات، وثانيهما المصالح والوجود الإيراني في العراق بمرجعياته وأحزابه التي خرج الشعب مطالباً بحلها. وفي المقابل تسرب تقارير عن فتح تركيا معسكرات على أراضيها لتدريب المقاتلين وإرسالهم للعراق، هذا بالإضافة إلى موافقة البرلمان التركي التي سبق وأن حصل عليها أردوغان والتي تسمح له بالتدخل العسكري في سوريا والعراق. كل المؤشرات تقول إن الحرب ستكون طويلة المدى، وإن أحداث البصرة تعكس رفض الشعب العراقي للتدخل الإيراني والخارجي عموماً، لكن سيكون من الصعب اقتلاع جذور الشر الإيرانية وصد التدخل التركي، وهذا لا يعني أنه مستحيل لكن سيكلف الشعب العراقي حسب ما يبدو الكثير من الدماء والدمار، لكن نرى بوضوح أنها بداية النهاية لاسترجاع استقلالية العراق وشعبه. والمثير في الموضوع أن كلتا الدولتين اللتين تعملان على تحريك الحروب والتناحر وتدمير الدول من أجل سرقة ثرواتها سواء في العراق أو سوريا تمران بأزمات اقتصادية حادة في هذه الفترة، والسؤال هنا: “من الذي يدعمهما لمواصلة وتعزيز النفوذ خارجياً والذي يحتاج أموالاً ضخمة؟”. ولا نرى جواباً سوى ما يعكسه التحالف القطري مع تركيا وإيران، والذي يرعى مشاريع هذه الدول التي تقف على حافة الإفلاس، ليختبئ بين العباءة والعمامة، ووراء ظهر أردوغان، إنه زمن الخزي والعار على دولة أنكرت أشقاءها طمعاً في أن تكون الأكبر فذابت بين أعداء الحرية والسلام إلى مصير مجهول.