بات ملحاً السؤال كيف سينتهي أول نزاع عسكري في أوروبا في القرن الحادي والعشرين لا سيما بعد محطات ثلاث؛ الأولى ما صدر عن الاجتماع الذي استضافه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في قاعدة عسكرية بألمانيا الأسبوع الفائت بمشاركة نحو 40 دولة، تعهدت بتقديم المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا ومنع روسيا من تهديد دول الجوار. الثانية اعتبار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بروز «خطر فعلي» لاندلاع حرب عالمية ثالثة للمرة الأولى، وأن هذا «الخطر جسيم ولا يمكن الاستهانة به». الثالثة تصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارك ميلي، بأنه إذا أفلتت روسيا مما فعلته من دون عقاب سينتهي ما يسمى النظام الدولي الحالي، وإذا حدث ذلك، فإننا سندخل عصراً من عدم الاستقرار المتزايد بشكل خطير.
هذه الوقائع والمواقف تؤشر إلى أن الحرب في أوكرانيا مرشحة للتصعيد والمزيد من العنف وارتفاع حدة الاستقطاب، ما يشي بصعوبة الرجوع إلى الوراء لدى كلا الطرفين المتنازعين. وهذا ما عكسته نتائج الانتخابات الفرنسية، وأصدق من عبر عنه هو المستشار الألماني أولاف شولتس حين اعتبر أن فوز إيمانويل ماكرون على اليمين المتشدد هو «علامة على قوة أوروبا»، لأن فرنسا وألمانيا هما «قاطرتا أوروبا». هذا الأمر يظهر تصميم الدول الأوروبية وأميركا على إلحاق الهزيمة بموسكو أو أقله كبح طموحها. إنما حتى اليوم، يتبين أن أسلحة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين ساعدت كييف على الصمود وعززت موقعها التفاوضي، لكن من دون انخراطهم المباشر في الحرب، وهو الأمر المرجح استمراره، أي لن تتمتع أوكرانيا بنصر حاسم ولن تعاني روسيا من هزيمة نكراء.
صحيح أن المقاومة الأوكرانية وقفت بوجه التقدم الروسي، لكن التحالف الغربي لم يفرض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شيئا حتى الساعة ليتقهقر. في المقابل، لا يبدو أن بوتين ينوي التراجع والحد من الخسائر والبحث عن طريقة لإنهاء الحرب لا تحقق ما سبق وأعلنه من أهدافه القريبة، وتلك السياسية الأكبر والأبعد من أوكرانيا، وذلك رغم إدراكه احتمال عدم سيطرته على أوكرانيا، وأن أمامه فقط طريقاً عسكرياً مكلفاً وممنوعاً سيضع على نظامه أعباء كبيرة جراء العقوبات وتكلفة الحرب. لكن مهما حدث ستظل روسيا قوة نووية ولديها أكبر جيش تقليدي في أوروبا وإن تضررت هيبته.
إذن ما التالي لأوروبا والعالم؟ هل يستمر الاندفاع الأوروبي الجماعي، أم ستعود أوروبا إلى ما كانت عليه من انقسام واستعرار للقومية قبل الحرب، الحرب التي أحدثت في أسابيع قليلة تحولات كبيرة: تجاوزت أوروبا أزمة اللاجئين وقبلت استقبال الملايين الإضافيين منهم، قررت ألمانيا زيادة غير مسبوقة للإنفاق العسكري، وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيقطع النفط والغاز الروسي «قبل عام 2030»، وهو ما لم يكن من الممكن تصوره سابقاً. في المقلب الآخر من الأطلسي، لا تزال غالبية المواقف في كندا ولدى قيادات الحزبين في أميركا موحدة إزاء سياسة الإدارة تجاه دعم أوكرانيا ورفض ما قام ويقوم به بوتين.
لكن يجدر الانتباه إلى بعض المؤشرات المعاكسة التي لن تغيب عن بال بوتين: في المجر، أعيد انتخاب حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان القومية بسهولة وبأغلبية شعبية، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية حققت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن أمام الرئيس المنتخب نسبة 41.5 في المائة من الأصوات، بارتفاع ملحوظ عن نسبة 33.9 في انتخابات سنة 2017، ولن يغيب عن الصورة استمرار شعبية دونالد ترمب في أميركا.
المرجح ألا تسمح هذه الحرب بسلام قريب وبسهولة، وحتى لو تراجع بوتين تكتيكياً، سيكون السلام مؤقتاً. ويصعب الاعتقاد أنه سيغير أسلوبه وأهدافه، وسوف يحاول من دون كلل تحقيق طموحات قومية قد يعجز الاقتصاد والنظام السياسي الروسي عن تحمل تداعياتها.
إن احتمالات مستقبل الحرب في أوكرانيا قد لا تتعدى الثلاثة إلا إذا حصلت تطورات غير متوقعة ومن خارج سياق الأمور وأدت إلى تسوية ما.
الاحتمال الأول هو عدم تراجع بوتين واستمرار المقاومة الأوكرانية مع تصاعد وتيرة وحجم التزويد الغربي بالأسلحة. هذا الاحتمال له تداعياته على روسيا لا سيما اقتصادياً ومالياً، وكذلك على الحلفاء الغربيين في السياسة والاقتصاد معاً، ما يعني نزاعاً طويلاً قد يمتد لسنوات، مترافقاً مع جولات تفاوضية ومبادرات من هنا وهناك لتبريد الساحة. هذا الاحتمال يحمل في طياته أيضاً إمكانية متغيرات في الوسط السياسي الروسي في أوساط الجيش بما قد يشكل ضغطاً على بوتين لتعديل مساره أو تغييره. هذا الاحتمال يضع في الحسبان إمكانية حصول طارئ ما لبوتين نفسه يغيبه عن صناعة القرار.
الاحتمال الثاني هو عناد بوتين ورفضه التراجع وتصميمه على بلوغ أهدافه ومنها خنق أوكرانيا عبر تدمير واحتلال منفذها البحري الوحيد أوديسا، وقد يستدعيه أيضاً ارتفاع وتيرة التزويد الغربي بالسلاح لا سيما الأسلحة الهجومية والحديثة وصمود المقاومة الأوكرانية وتكبيدها خسائر أكبر للجيش الروسي. هذا الأمر سيدفع بالرئيس الروسي لاستعمال أسلحة غير تقليدية أو نووية دقيقة، ما يرفع من حدة المواجهة التي قد تصل إلى مشارف حرب عالمية لا حدود لمخاطرها ومآسيها.
الاحتمال الثالث هو تشظي وانفراط عقد الاتحاد الروسي جراء استمرار الحرب فترة طويلة وحصول اضطرابات وقلاقل داخلية عرقية أو حتى دينية. ومع أن هذا الاحتمال أقل خطراً من اندلاع مواجهة نووية، إلا أنه قد يقضي على مقدرات روسيا ويجعلها مجرد دولة إقليمية أمام العملاق الصيني وسيجر مخاطر سياسية وأمنية على مستوى آسيا وأوروبا خاصة أن العالم لم يشف بعد من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي. فروسيا دولة نووية كبرى، ويجدر السؤال: بيد من ستقع أكبر ترسانة نووية في العالم؟ وهي أيضاً مصدر رئيسي لموارد أساسية كالغاز والنفط والقمح، فما مصير هذه الموارد إذا دبت الفوضى في البلاد؟ وعلى مستوى إقليمي محدود، لا تزال منطقة الشرق الأوسط تعاني من الفراغ الذي تركه سقوط نظام صدام حسين رغم سوئه والفظاعات التي ارتكبها. ولعل استمرار نظام بشار الأسد، ولو صورياً، هو نتيجة من الخشية مما قد يأتي بعده. كذلك يخشى حلفاء إيران وخصومها انهيار النظام في طهران بلا وجود بدائل واقعية وذات مصداقية يصعب العثور عليها بسهولة. فكيف إذن بسقوط روسيا وانهيارها؟
ليس من السهل فهم المقصود بمعاقبة روسيا أو هزيمتها ومآلاته، تماماً كما يتعذر معرفة حقيقة ما يدور في رأس بوتين من أهداف وخطط من وراء هذه الحرب المدمرة الخطيرة في أوكرانيا. ومن دون الدخول في سجالات بشأن أسباب الحرب وتوزيع اللوم والمسؤوليات، يواجه العالم أزمة معقدة لا كوابح لها، والنظام الدولي الذي يهتز ويعمل على استبداله من أكثر من جهة معطل، والتقارب بين ضفتي الأطلسي واليقظة والوحدة الغربية بعامة غير قادرة على الحسم ولا يبدو أن روسيا نفسها عازمة على مراجعة حساباتها، ولا ما بلغته البشرية من تقدم ووعي وإنجازات على مدى القرن الماضي قادر على المساعدة للخروج من عنق الزجاجة الحاصل في هذه المأساة.
يبقى أن ننتظر ما قد تؤول إليه مواقف الصين والهند ودول أخرى لا تزال متيقظة وحذرة من الانخراط في هذه الأزمة. هل هذه القوى مؤهلة لدور ما في هذا النزاع؟ هل دخل النظام الدولي في مرحلة إعادة فرز المعادلات وإعادة توزيع مصادر القوة والثروات وفق معايير تختلط فيها القيم المتنافرة والمصالح المتناحرة؟ المستقبل وحده قادر على الإجابة.