القول إن روسيا تعتزم غزو أوكرانيا “في أي وقت”، ليس سوى محض افتراء، ولكنه مقصود.
الولايات المتحدة هي التي تريد اندلاع حرب في أوكرانيا. وتتضرع من أجل أن يُقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أي خطوة لكي يوفر للولايات المتحدة الفرصة لفرض عقوبات جديدة على روسيا، تبلغ مستوى “الدمار الاقتصادي الشامل”. وهو ما لم يتردد المسؤولون الأمريكيون عن قوله وترديده، مرة بعد مرة.
الولايات المتحدة لم تسحب مواطنيها وموظفي سفارتها من كييف فحسب، ولكنها سحبت كل ما لديها من جنود في أوكرانيا، وكذلك فعلت بريطانيا، وذلك من أجل فتح الطريق أمام روسيا لكي تغزو أوكرانيا دون عوائق أو خشية من تصادم مباشر.
تريد واشنطن أن تُقدّم أوكرانيا كبشَ فداءٍ لشيء آخر، لا يقتصر على تدمير الاقتصاد الروسي، ولكنه يمتد ليدمر اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي أيضا.
العداء لروسيا، هو في الواقع عقيدة عسكرية وسياسية راسخة في الولايات المتحدة. وهذه العقيدة هي الأساس الذي يبقي جمر التنازع متقدا.
الرئيس بوتين لم يدفع بحشد هائل من قواته إلى الوقوف على مقربة من الحدود مع أوكرانيا دون غايات. ولكنه أراد أن يضع حدا لتمدد الحلف الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية وأن يعيد إثارة مسألة الضمانات الأمنية المتبادلة التي تم إقرارها في عام 1991.
هذه الضمانات كانت تشمل عدم دفع دول أوروبا الشرقية إلى الانضمام للحلف الأطلسي، وأن يكون الأمن الأوروبي جماعيا، فلا يأتي أمن أحد على حساب آخر. ولكن العكس هو ما حصل. “الأطلسي” ظل يتمدد. وعندما بلغت الاستعدادات حد السعي إلى ضم أوكرانيا أيضا، فإن السكّين كان قد بلغ الرقبة. والسبب الرئيسي للمخاوف من هذا المسار، هو أن النزاع حول شبه جريرة القرم، سيكون نزاعا مباشرا مع الحلف الأطلسي، وبالتالي حربا عالمية ثالثة.
موسكو تريد وقف هذا المسار الكارثي. فماذا تريد واشنطن؟
الولايات المتحدة لا تريد هي الأخرى مواجهة عسكرية مباشرة سرعان ما يمكن أن تتحول إلى حرب نووية.
الحرب النووية تعني أن الولايات المتحدة نفسها، كما روسيا طبعا، ستكون هي أرض المعركة. وهذا مما لا يتناسب مع مصالح دولة خاضت حربين عالميتين على أرض الآخرين. فباستثناء الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر في 7 ديسمبر عام 1941 الذي كان بمثابة قاعدة عسكرية للبحرية الأمريكية في جزر هاواي، فإن الأراضي الأمريكية لم تتعرض لطلقة مسدس واحدة.
ولكن هناك دوافع أخرى لتمني اندلاع حرب جديدة في أوروبا.
روسيا تحولت في غضون الثلاثين عاما الماضية من دولة عظمى منهارة، إلى قوة اقتصادية وعسكرية كبرى من جديد.
ومد خط السيل الشمالي الثاني إلى ألمانيا، بعد الأول الذي افتتح في أغسطس 2011، سوف يوفر لروسيا شريان ثراء اقتصادي إضافي، وذلك بتزويد أكبر اقتصاد أوروبي بما يبلغ مجموعه 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. هذا الخط يعني من الناحية الاستراتيجية أنه سوف يحول أوروبا إلى رهينة للغاز الروسي، وذلك في موازاة الخط الذي يمر عبر أوكرانيا الذي ينقل 38 مليار متر مكعب سنويا.
كل البدائل التي سعت واشنطن لتوفيرها لتعويض أوروبا عن الغاز الروسي، فشلت. ومن المرجح أن تفشل في المستقبل أيضا. وذلك، إما لأن مصادر الغاز البديلة محجوزة سلفا لصالح مشترين آخرين، وإما لأنه لا تتوفر قدرات إنتاج وتكثيف جاهزة تكفل تغطية النقص في قارة تستهلك سنويا أكثر من 500 مليار متر مكعب من الغاز.
إضعاف روسيا أو تدمير اقتصادها، هو ضربة من تحت الحزام للصين أيضا، التي تعتبرها الولايات المتحدة الخصم العالمي الأول، اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا في آن.
كل ما يتمناه الرئيس جو بايدن هو أن يُقدِم الرئيس بوتين على غزو أوكرانيا، فيجعل منها ضحية لحشد القوى الأوروبية من أجل الوقوف في وجه روسيا.
المسؤولون الروس يقولون إن المزاعم عن غزو روسي محتمل هي مجرد “هستيريا بلغت الذروة”. ولكنها هستيريا “عقلاء” يعرفون ماذا يفعلون.
روسيا حتى وإن لم تُقدم على غزو أوكرانيا، فإنها تتوقع حربا من باب آخر.
فبينما تنسحب الوحدات العسكرية الأمريكية والبريطانية من جبهات الصدام المحتمل، فإنه يجري تسليح أوكرانيا لتشجيعها على اقتحام إقليم دونباس وقهر المنشقين الموالين لروسيا بالقوة.
النظرية في واشنطن تقول: إما أن يمتنع بوتين عن دعم مواطنيه الروس في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، فيدفع ثمن هزيمة معنوية كبرى ولا يعود قادرا على المطالبة بمنع التحاق أوكرانيا بعضوية الأطلسي. وإما أن ينهض لدعمهم، فتندلع الحرب بين موسكو وكييف، ويتم فرض العقوبات على روسيا.
الرابح الوحيد، في الحالتين، هو الولايات المتحدة، التي ستعود لتتقدم على أنها المنقذ الأوحد لأوروبا من “الوحش الروسي”.
هذه النظرية يمكن أن تفشل لسببين، على الأقل:
الأول، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لا يريد الدخول في هذه اللعبة. لأنها تدمر اقتصاد أوكرانيا.
والثاني، هو أن أوروبا ستعود إلى أجواء الحرب الباردة، ما يدمر اقتصاداتها هي أيضا. ألمانيا وفرنسا، لا تريدان الانخراط في نزاع يمكن حله بوسائل دبلوماسية.