سياسة

المسألة الأوكرانية.. سباقات متوازنة نحو التهدئة والتصعيد

د. طارق فهمي


بعيدا عن التقييمات الاستخباراتية للغرب، خاصة أمريكا، بأن روسيا في طريقها لاجتياح أوكرانيا والتمركز في شرقها، على غرار ضم شبه جزيرة القرم، فإن ثمة وقائع في التطورات الأخيرة.

أول هذه الوقائع هو الإعلان الروسي عن ترتيب لمناورات ستجرى مع بيلاروسيا في منتصف الشهر الجاري -وتستمر المناورات المقرر انطلاقها 10 فبراير الحالي 10 أيام، وستتم في 5 مواقع- في إشارة مهمة إلى أن روسيا من حقها أن تقوم بأي إجراءات لحماية أمنها القومي في مواجهة إجراءات الولايات المتحدة والدول الغربية، والتي تنشر بعض قوات حلف الناتو في بعض دول أوروبا، مع استمرار الإجراءات الاستراتيجية من دول الحلف وتصميم الولايات المتحدة على التحسب لأي إجراءات روسية، وهو أمر متوقع خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الإعلان عن المناورات، وحجم القوة المشاركة فيها كبير، يصل إلى 23 ألف جندي و300 دبابة و500 عربة مدرعة و3500 جندي مظلات.

هذا العتاد العسكري الكبير سيكون منطلقا للقيام بعمل عسكري في ظل وجود أكثر من 100 ألف جندي روسي على مناطق الحدود، مقابل إقدام الإدارة الأمريكية على إرسال ألف جندي أمريكي من ألمانيا إلى رومانيا، كما سيتوجه نحو ألفي جندي من قاعدة “فورت براغ” في ولاية “نورث كارولينا” إلى ألمانيا ورومانيا وبولندا، والمعنى هنا توجيه رسالة واضحة وقوية إلى الرئيس الروسي، بوتين، بأن حلف الناتو مهم للولايات المتحدة، وأن واشنطن مستعدة للدفاع عنه ضد أي اعتداء، مع التأكيد أن هذه القوات لن تقاتل في أوكرانيا، وتَوقُّع احتمالات نشر بضعة آلاف آخرين من الجنود الأمريكيين لاحقا في دول حلف الناتو، جنوب شرقي أوروبا.

ثانيها: استمرار الخطاب الروسي منصبا على ضرورة الحصول على تعهدات مكتوبة من حلف الناتو والولايات المتحدة بعدم دخول أي دول من شرق أوروبا في حلف الناتو، بما يمثل من تحديات سياسية واستراتيجية على روسيا سيتطلب التعامل معها بجدية، في ظل استمرار حالة التجاذب الكبرى بين روسيا والولايات المتحدة حول ما يتطلبه الأمر من توافقات وردود فعل حقيقية قد يسلّم بها الجانبان، لإطفاء حالة الاحتقان الكبرى القائمة، والتي ما تزال في تصاعد جراء ما يقوم به الجانبان على الأرض من إجراءات تصعيد، وليست تهدئة.

ثالثها: دخول الطرف المعني والرئيسي، أوكرانيا، على خط ما يجري، وهو ما عبر عنه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مؤخرا من أن الدعم العسكري والدبلوماسي الغربي لبلاده بلغ أعلى مستوى له منذ ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم في 2014.. وأن الدعم الذي تحظى به أوكرانيا هو الأكبر منذ 2014، على اعتبار أنه “غير مشروط ومتواصل”، كما حثّ على عدم إثارة الذعر بشأن تهديد روسيا بشن هجوم عسكري، مع توقُّع الدخول في موعد جولة أخرى من “محادثات السلام” مع روسيا وفرنسا وألمانيا.

رابعها: استمر التحرك الروسي الرئاسي ولقاء بوتين ورئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي تبنّت دولته -العضو في الناتو والاتحاد الأوروبي- نهجاً أقل تشدداً حيال أزمة أوكرانيا.. وهو نهج هادئ من دولة تشاطرها حدوداً برية قصيرة، حيث حدد الرئيس الروسي المطالب الرئيسية لبلاده، ومنها وقف سياسة توسع حلف شمال الأطلسي، والتعهد بعدم نشر أسلحة هجومية قرب الحدود الروسية، وسحب الانتشار العسكري لحلف شمال الأطلسي إلى حدود 1997، أي قبل انضمام دول سابقة من الكتلة السوفييتية إلى الحلف.

اللافت هنا هو ردود الفعل على تحركات روسيا السياسية في هذا التوقيت، وأهمها مسعى روسيا لتأكيد أن بعض القادة الأوروبيين “لا يتطلعون ولا يرغبون في الحرب”، وأن جميعهم “يؤيدون الحلول السياسية”، وأن روسيا “مع الحل السياسي”، خاصة أن بعض العواصم الأوروبية لا ترى من المناسب نشر قوات إضافية تابعة لحلف الناتو على أراضيها، في ظل التوتر الراهن حول أوكرانيا.

خامسها: دخول أطراف جديدة فيما يجري من تطورات سياسية وعسكرية، ومنها قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة أوكرانيا، للوساطة بين أوكرانيا وروسيا، لتجنب نزاع قد يُلحق ضرراً بتركيا أيضاً. مع تأكيد الرئيس التركي أن تحركه يأتي بصفة تركيا عضواً في الناتو، وكذا الرغبة في عدم وقوع مواجهة بين روسيا وأوكرانيا مع الدعوة لحل سلمي للأزمة.

ربما لا تهتم روسيا بالوساطة التركية، فالرئيس الروسي قبل كل شيء يريد أن يُعامَل على قدم المساواة مع واشنطن.

سادسها: سيبقى الموقف الراهن أمريكيا وروسيا مرتبطا بتجاوبات حذرة على كل جانب، ومن ذلك الالتزامات المتبادلة كالامتناع عن نشر أنظمة صاروخية هجومية أرضية وقوات دائمة بمهمة قتالية في أراضي أوكرانيا، وهو أمر سيحتاج إلى مراجعات للمواقف داخل وخارج نطاق حلف الناتو، مع تلويح الرئيس الأمريكي جون بايدن بأن الولايات المتحدة ستعيد تموضع وحدات معينة، مقرها أوروبا، في الشرق، وستنشر وحدات مقرها الولايات المتحدة في أوروبا، وتبقي حالة التأهب القصوى في صفوف قوات الرد، للوفاء بالتزاماتها تجاه حلف الأطلسي، وهو أمر يتم بالتوازي مع تطوير منظومة العقوبات الأمريكية على روسيا، والتلويح بتفعيل منظومتها للإضرار بالتحركات الروسية إقليميا ودوليا.

في كل الأحوال، سيستمر المشهد الراهن محكوما بضوابط عامة تشمل مواقف كل الأطراف، مع التوقع بأن الخيارات العسكرية تستبق الخيارات السياسية.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى