كشفت الوثائق المرتبطة بتحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) لتفجيرات 11 سبتمبر غياب أي تورط رسمي للحكومة السعودية في الهجمات الدامية التي دمغت المسار الدولي، وبدَّلته تبديلا جذريا، وقلبته رأسا على عقب، وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط.
وفي حين لا تزال المنطقة تدفع ثمن تداعيات هذه الجريمة المفصلية التاريخية حروبا واغتيالات وإرهابا منظما يستغله أصحاب الأجندات لتحقيق خرائط نفوذ جديدة، يبقى أن أحداثا مثل تلك التي هزت العالم، وعالمنا على وجه الخصوص، لا يمكن أن تكون من دون راعٍ خبير، له اليد الطولى في التفكير والتنظير والتخطيط والتجنيد والتنفيذ.
المنطق يفرض ذلك بالنظر إلى كيفية تنظيم العمليات بدءا من دراسة شخصيات المرتكبين الملائمين، مرورا بتدريبهم، وليس انتهاءً بتنفيذهم جرائمهم بعد اجتياز الرقابة الأمنية والاستخباراتية في دولة الـ”أف بي أي” المنيعة فرضا.
المنطق يفرض أيضا البحث عن المستفيدين الذين حصدوا ويحصدون مكاسب التبديل الجذري للمعادلات الدولية المتعلقة بالإقليم.
وإذا سلَّمنا جدلا أن الظلم والتهميش والفقر المؤدي إلى الجهل هي العوامل التي تنجب التطرف، ومن ثم الإرهاب، لا بد أن يلح السؤال عن الدول والأنظمة التي تزرعه وتغذي جماعات تستغل الأفراد وتنتهج أيدولوجيات التطرف والحقد وتجهيل الشعوب بغية استخدامهم وقودا لتحقيق بنود أجنداتهم.
بالتالي فإن الوثائق السرية التي أزاح عنها الستار الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي نفت تورط السعودية كدولة في هذه التفجيرات، تفرض على المسؤولين عن التحقيق البحث في مكان آخر.
ولنا في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري ثمة ما يشير إلى هذا المكان الآخر، وإن بمستوى أصغر بكثير مما حصل في 11 سبتمبر. لكن الجريمة من حيث المبدأ تبقى جريمة، والتخطيط يبقى تخطيطا. فقد بينت التحقيقات الدولية المرتبطة باغتيال الحريري كيفية استدراج المفقود حتى تاريخه، الفلسطيني أحمد أبو عدس، من قبل أشخاص منتمين إلى “حزب الله”، بدليل ما تم إثباته من خلال شبكة الاتصالات المرتبطة بهذه القضية. وكيف أن أحد هؤلاء المتهمين رصد أبو عدس ولحقه إلى المسجد، مدعيا حاجته إلى ابن التاسعة عشر ليتعلم أكثر عن الدين الإسلامي.
وبمعزل عن التفاصيل، اختفى أبو عدس. خرج ولم يعد. ترك والدته نهاد بانتظاره ليساعدها في ترتيب المنزل. ترك والده يموت قهرا بعد تعرضه إلى الاستجواب والتعذيب، وذلك بعدما ظهر في شريط مصور يدعي مسؤوليته عن هذه الجريمة، ويعترف أنه قام بعملية انتحارية دفاعا عن الإسلام وفي إطار العمليات الإرهابية المعروفة السمات، ليتَّضِح لاحقا ألا أثر له في ساحة الجريمة أو في أي نشاط سابق مرتبط بها، وفق التحقيقات المعمقة ونتائج فحوص الـ”دي أن آي”، وأن الشريط الذي دُسَّ تحت شجرة هو جزءٌ من التخطيط الذي يدل على المرتكبين الفعليين.
ولم يحل كل هذا التحايل دون معرفة الدولة الراعية لإرهاب هذه الجريمة التي استدعت تحقيقا دوليا ومحكمة خاصة بلبنان بموجب قرار صادر عن الأمم المتحدة.
كذلك لم يحل دون الإدانة المنطقية اتهام المحكمة الدولية الذي اقتصر على شخص المتواري عن الأنظار سليم عياش بارتكاب هذا العمل الإرهابي، وعدم تجريم “حزب الله” الذي ينتسب إليه عياش، والذي يشكل ذراعا من أذرع إيران التي تموله وترشده روحيا وعسكريا ومعيشيا ونفطيا.
ومع أن مرتكبي هذه الجريمة لا يزالون دون عقاب، ومع أن غالبية الأسماء المفترض تورطها في ارتكابها، سواء ذكرهم التحقيق أو فضحتهم عمليات التصفيات المتلاحقة، وتحديدا في سوريا، التي محت أثرهم وقطعت الرابط بين المنفذين والمخططين، إلا أن الحقيقة صارت تحت أعين من يريد تصديقها.
ولعل هذه الحقيقة هي المطلوبة في الصفحات السرية التي لا تزال محجوبة عن الرأي العام، ليس فقط في الولايات المتحدة، وليس فقط لأهالي ضحايا 11 سبتمبر، ولكن لمواطني الدول التي تشهد انهيارات متلاحقة تبيد مستقبلها بسبب التغيير الجذري لموازين القوى الدولية والإقليمية.
نقلا عن سكاي نيوز عربية