في أوائل ثمانينيات القرن الماضي أُنشئت في أمريكا “قوات الضربة الأفغانية”، وهدفها الثأر من الاتحاد السوفييتي.
فقد كان السوفييت، كما تقول أمريكا، يدعمون ثوار “الفيتكونغ” في فيتنام ضد القوات الأمريكية، ولكن كانت النتيجة الأمريكية أكبر مما تم التصريح به، فقد سقط الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات، وهي الفترة ذاتها التي ظهرت فيها وبشكل مفاجئ حركة “طالبان”، وتم تسهيل وصولها إلى كابول، وحتى بداية القرن الحادي والعشرين كانت “طالبان” مستقرة وتتحكم، ولو بشكل هش، في أفغانستان.
لقد كانت هجمات 11 سبتمبر 2001م الإرهابية على بُرجي التجارة في نيويورك مفترق طرق بالنسبة لـ”طالبان” وأمريكا، التي دعمت هذه الحركة داخل أفغانستان، وبعد شهرين من أحداث سبتمبر 2001 اتهمت أمريكا تنظيم “القاعدة” الإرهابي بأنه يقف وراء الهجمات، وكانت نتيجة هذا الاتهام أن قامت القوات الأمريكية في 17 أكتوبر 2001م بالهجوم على أفغانستان بغرض محاربة الإرهاب.
بعد عقدين من الزمان، وبين سبتمبرَي 2001 و2021، يعود مشهد الانسحاب الأمريكي، حيث ستكمل أمريكا وبشكل نهائي انسحابها، أو لنقُل هروبها، قبل بداية سبتمبر القادم.
مشهد الانسحاب الأمريكي يتم بذات الصيغة، التي انسحبت بها أمريكا من مدينة “سايغون” الفيتنامية عام 1975.
واليوم، تتصاعد الأسئلة الكبرى: لماذا انسحبت أمريكا؟ وماذا كانت تفعل خلال عقدين من الزمان في أفغانستان وقد أنفقت خلالهما 3 تريليونات دولار، بحسب “بايدن”؟
من الصعب التكهن بالتطورات المستقبلية لأفغانستان، ولعل السبب أن هناك لاعبين محليين ودوليين وإقليميين في أفغانستان، كل منهم يرسم أهدافه الخاصة ويتمنّى أن تتجه الكفة نحو مصالحه، لكن الدرس الأكثر أهمية اليوم يتمثل في ملاحظة شاملة تعكس تنامي حجم الوعي السياسي الإقليمي والدولي تجاه الاستراتيجيات الأمريكية، خاصة أن السلوك الأمريكي الدولي خلال العشرين سنة الماضية تأثر بكثير من المعطيات السياسية الناشئة في أمريكا نفسها وأزماتها الداخلية.
المناقشات حاليا تدور حول أمريكا وانسحابها من أفغانستان، ويحاول الجميع البحث عن الأسباب الفعلية التي أدت إلى هذه الحالة، ولكن هل قضية أفغانستان يكفيها البحث عن تفسيرات أسباب الانسحاب الأمريكي؟
أفغانستان بعد هذا الانسحاب تدخل في منعطف ستكون له تأثيراته على القوى الدولية والإقليمية، كما أن طريقة الحكم التي سوف تدير بها “طالبان” أفغانستان مستقبلاً سيكون لها الأثر الكبير في بناء الصورة المحتملة لهذه الدولة.
أفغانستان منذ أكثر من أربعة عقود منطقة ملتهبة أيديولوجيا وسياسيا، وهذا يدعم أن الاستمرار في القلق الأفغاني داخليا مستمر ولن يتوقف بمجرد خروج أمريكا.
أفغانستان يمكنها لعب دور مهم في تحديد التوجه العالمي القادم الخاص بميزان القوى، كونها اليوم مسرحا مهما للقوى الدولية، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتنامي الصين وتشتت السلوك الأمريكي، وهذا يعني أنه خلال العشرين سنة الماضية تحولت أفغانستان إلى حقل سياسي يرحب الجميع بالمرور من خلاله، ولكن لا أحد يمتلك مفاتيح هذا الحقل تماما، وهذا ما تدركه روسيا والصين وباكستان والهند وإيران والعالم الإسلامي والدول العربية، وحتى التنظيمات الإرهابية.