في “الانقلاب” الأردوغاني.. و”انقلاب” الإخوان عليه
قبل عقد من الزمن، وفي لحظة مفصلية على وقع حادثة بوعزيزي في تونس.
اعتقد أردوغان أنها الفرصة الذهبية لتحقيق أحلامه، سريعا تصرف وكأنه خليفة المسلمين في الأرض من مشرقها إلى مغربها، اتبع سياسة شعبوية خطرة، خاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم في كل مكان، بات يتحدث بلسان الإويجور في الصين، يعد برفع “الحصار” عن غزة واستعادة القدس كلما خطب هنا وهناك، يخطط لبناء المساجد في أمريكا اللاتينية، يعد بالصلاة في الجامع الأموي بدمشق ويحدد مواعيد لرحيل السوري بشار الأسد بعد أن كان يصفه بالأخ طوال السنوات الماضية لحديثه، مارس كل أنواع الاستعلاء ضد الرئيس المصري السيسي، ويجزم بأنه لن يعترف بشرعيته مهما جرى.
أردوغان وفي كل ما سبق، راهن على جماعات الإخوان المسلمين بعد أن حوّل بلاده إلى مركز للتنظيم الدولي للإخوان، وفتح لهذه الجماعات المطارات والقنوات التلفزيونية والبنوك والمقار حتى بدا وكأن إسطنبول تحولت إلى مقر للباب العالي من جديد.. فيما تدفقت أموال هذه الجماعات إلى تركيا، لتدافع عن أردوغان أكثر من بلادها وشعوبها، بل تحولت إلى أذرع لأردوغان لنشر الخراب والفوضى والتدمير في بلادها دون أي وازع، وهو ما دفع بالعديد من الدول إلى تصنيفها في قوائم المنظمات الإرهابية.
بعد عقد من الزمن، ومع قدوم إدارة بايدن إلى سدة البيت الأبيض، تغيرت الرياح بما لا تشتهي سفن أردوغان، فدبلوماسية الهاتف مع ترامب لم تعد موجودة، وبات لسان حال بايدن يقول لأردوغان انتهى عهد التجاوزات، وفي سوريا قلب التدخل الروسي حسابات أردوغان، بل أجبره على تقديم التنازلات والحد من دوره، ولم يعد يهم أردوغان من الأزمة السورية سوى ألا يكون للأكراد في سوريا وجود وشأن، وفي ليبيا التي ألقى أردوغان بكل ثقله للسيطرة عليها نجحت مصر التي كانت أول دولة توجه ضربة قاتلة لمشروعه الإخواني نجحت وبدعم عربي خليجي في وضع حد لجموحه ودفع الليبيين إلى التصالح والانتصار لهويتهم الوطنية، وفي قضية المسلمين الإويجور في الصين، باتت أولويته هي مصالحه مع الصين حتى لو اقتضى الأمر بتسليم الإويجوريين سرا إلى الصين.
وفي الملف الفلسطيني بات أردوغان يخطب ود إسرائيل وتحسين العلاقات معها، لا سيما بعد أن أحس بأن اتفاقات السلام العربية – الإسرائيلية أنهت المقولة التي روجتها تركيا بأنها الدولة الوحيدة المؤهلة لإقامة نظام إقليمي مع إسرائيل في المنطقة، وفي شرقي المتوسط توقفت سفنه عن الإبحار إلى الشواطئ المتنازع عليها مع اليونان بحثا عن موارد الطاقة، بعد أن استعدت اليونان للحرب جيدا، ولاقت دعما أوروبيا وأمريكيا.
مع هذه المتغيرات والمعطيات أدرك أردوغان أن سفنه القديمة لم تعد تصلح للإبحار، وأن رهانه على الإخوان بات عبأ ثقيلا على سياسته الخارجية، وفي هذه اللحظة المفصلية أيقن أردوغان أن سياسته الشعبوية لم تعد تنفع، كما أدرك أن تغيير البوصلة بات ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على سلطته في الطريق إلى انتخابات عام 2023، لا سيما أن الانتخابات المحلية السابقة وجهت أكبر ضربة إلى حزبه الحاكم منذ وصوله إلى السلطة عام 2002. وعليه تدفقت رسائل الغزل التركية نحو مصر، وتم وضع الإخوان على بازار السياسة، وإرسال رسالة تلو الأخرى إلى القاهرة، مفادها الاستعداد للذهاب حتى النهاية من أجل فتح صفحة جديدة، تارة بتحديد مضمون خطاب القنوات التلفزيونية الإخوانية التي تبث من تركيا، وأخرى بوضع قادة الإخوان وعناصرهم على قوائم التسليم والترحيل، مع هذا الانقلاب الأردوغاني أدرك الإخوان أنهم باتوا بضاعة للبيع من أجل تحسين العلاقة التركية – المصرية، ذهبوا إلى فرعهم الأصلي جماعة حزب السعادة الذي هو ما تبقى من إرث نجم الدين أربكان مؤسس الإسلام السياسي التركي، أحس أردوغان بانقلاب الإخوان عليه، فأغلق ياسين أقطاي مسؤول التواصل مع الإخوان هواتفه في وجه قادتهم، ومع هذا التطور بات حال الإخوان المتواجدين في تركيا يتراوح بين التخبط والارتباك والصدمة والبحث عن بلد آخر للرحيل إليه، انقسموا بين بعضهم، بين من ظل يراهن على البقاء على الولاء لأردوغان وبين من بات مقتنعا بأن الأخير باعهم وأن القضية باتت قضية أسابيع وشهور، بين هذا وذاك، دخل الإخوان في مرحلة التشظي والتيه بعد أن أحرقوا مراكبهم مع أوطانهم لصالح مشروع عثماني انتهى! ولم يعد هناك مجال لإعادته إلى الحياة.
في الميزان، ثمة اعتقاد قوي بأن الإخوان كبضاعة لم تعد لها قيمة في المدى البعيد، وأن البراجماتية الأردوغانية هي في الميزان، والميزان بل والامتحان هنا، في أن يتخلص أردوغان من أوهامه وطموحاته الجامحة، فتركيا في النهاية ليست دولة عظمى وإن كانت مهمة هذا أولاً، وثانيًا أن المقياس الحقيقي للتحول التركي هو في الداخل وليس في الخارج، وذلك بالتراجع عن ممارسة السلطة كسلطان مطلق الصلاحيات على حساب التعددية والديمقراطية والتوازن في المؤسسات، إذ من دون ذلك تبقى الطموحات الجامحة حاضرة في السياسة التركية في ظل قائد بارع يجيد صنع التحالفات والانقلابات معا.