كيف اغتنم “إخوان ليبيا” هشاشة التجربة السياسية بعد سقوط القذافي؟
لم تعرف ليبيا على مدى تاريخها السياسي الحديث الممتد لسبعة عقود، الأحزاب ولا الحياة السياسية التعددية، بسبب الحظر الحزبي الذي فرضه النظام الملكي بزعامة الملك الراحل إدريس السنوسي (1951-1961)، ونظام معمر القذافي الشمولي (1969-2011)، ما انعكس سلباً على التجربة الديمقراطية الناشئة بعد ثورة فبراير (شباط) 2011، وأدى إلى تخبطها وتعثرها، وصولاً إلى الاحتكام للسلاح لاعتلاء السلطة، بدلاً من اللجوء إلى صناديق الاقتراع .
تجميد الحياة الحزبية لعقود طويلة، ومحاولة إحيائها على عجل، لملء الفراغ الذي تركه سقوط نظام القذافي، والرغبة في المشاركة في السباق المحموم على السلطة، الذي نشأ بعد ذلك بوقت قصير، أدى إلى تأسيس عدد من الأحزاب الهشة، بلا أسس سليمة وأهداف واضحة، فاختفى أغلبها بعد فترة ليست بطويلة، من ولادته، من دون أن يترك أثراً ملموساً في المشهد السياسي الليبي.
المستفيد الأبرز من هشاشة الأحزاب المتنافسة، وانعدام التجربة السياسية في ليبيا، كان “حزب العدالة والبناء”، الذراع السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين”، الذي استفاد من خبرات التنظيم العالمي والدعم والاستشارات الكبيرة التي تلقاها منه ليسيطر على الساحة الخالية، خصوصاً بعد تراجع دور حزب “تحالف القوى الوطنية” ممثل التيار المدني العلماني، بوفاة مؤسسه الدكتور محمود جبريل في القاهرة قبل أشهر قليلة.
“من تحزّب خان”
وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب على الأحزاب من قبل نظام القذافي في ذروتها خلال ثمانينيات القرن الماضي، رافعاً أشهر شعاراته وأغربها “من تحزّب خان” رايةً لهذه الحرب، كان أعضاء تنظيم “الإخوان المسلمين – فرع ليبيا” يفرون إلى الخارج، لتحتضنهم فروع الجماعة الأم في أوروبا والولايات المتحدة، ما مكّنهم من التعرف على نوع من التجربة الديمقراطية من خلال الانتخابات العامة، التي تجريها الجماعة دورياً لاختيار رؤسائها وقادتها في أنحاء العالم.
وفّرت هذه الظروف فرصة لتراكم الخبرات السياسية لإخوان ليبيا، استفادوا منها على مراحل، عندما بدأ المناخ السياسي يتغير في ليبيا في السنوات الأخيرة لنظام القذافي، وانفتاحه النسبي على المعارضة في الخارج، وبعد الثورة التي أسقطت نظامه عام 2011 .
ما تيسّر لأعضاء “إخوان ليبيا” الفارين من بطش النظام في تلك الفترة، لم يتَح لنظرائهم من التيارات الأخرى، التي استمر منها عند اندلاع الثورة، التيار المدني ذو التوجهات الليبرالية، الذي اضطُر إلى مكابدة ظروف صعبة في الخارج، ومطاردة النظام لناشطيه، من دون حماية ومساندة ومظلة حزبية تعينهم، فخاضوا تجارب معارضة فردية لم تكن كافية بعد ذلك لتعينهم على تأسيس أحزاب قوية مؤثرة وقادرة على الوقوف نداً لجماعة الإخوان وأذرعها السياسية، الأكثر تنظيماً وتجربة، والمؤسَسة على قواعد متينة بأهداف محددة واستراتيجيات واضحة، مهما اختلف عليها ومعها .
ركوب موجة التوريث
خطورة جماعة “الإخوان المسلمين” في ليبيا بدأت تظهر بظهور سيف الإسلام نجل معمر القذافي، على الساحة السياسية في البلاد حاملاً لواء مشروع التوريث لحكم أبيه، بدعم غربي واسع كان مشروطاً بضرورة انفتاح النظام على معارضيه في الخارج، واحتوائهم بدلاً من مطاردتهم وقمعهم .
ويشرح أستاذ التاريخ في جامعة عمر المختار الليبية، أحمد البرعصي، كيف استفادت جماعة الإخوان من هذه الفرصة، قائلاً “كانت تنازلات نظام معمر القذافي لمعارضيه فرصة ذهبية لجماعة الإخوان في ليبيا، وهي التي تمت بضغط دولي كبير على النظام وقتها، مستغلاً خوفه من أن تجرفه موجة التغيير التي بدأت بعد أحداث11 سبتمبر (أيلول) 2001، وكان أول ضحاياها نظام الرئيس العراقي صدام حسين”. ويتابع “عندما جاءت هذه الفرصة الذهبية، كانت جماعة الإخوان الليبية مشتتة وضعيفة أكثر من أي وقت مضى، تنهشها الخلافات بين أعضائها وقادتها بعد فشلها في كل معاركها مع معمر القذافي، الذي نجح في تضييق الخناق عليها بأساليبه في ابتزاز الرؤساء وإغرائهم بأمواله الوفيرة، وقد استغلتها على أكمل وجه بمد يدها له من جهة، استعداداً لطعنه باليد الأخرى عندما تحين الفرصة”.
ويبيّن البرعصي كيف تمكن الإخوان من التغلغل في مؤسسات القذافي السياسية والاقتصادية، ونخرها من الداخل تمهيداً لإسقاط نظامه، حين “فتح ابن القذافي سيف الإسلام أبواب جهنم على القذافي والبلاد بعده، عندما مكن قيادات إخوانية من التغلغل في المؤسسات السياسية والاقتصادية وحتى الإعلامية، وسلمهم زمام الخطاب الديني، وهذا الخطأ كان بداية للكارثة التي تعانيها البلاد حالياً، والتي لعبت القيادات التي أعادها سيف الإسلام إلى ليبيا دوراً كبيراً فيها”.
شرارة الصراع الحالي
يعتقد الباحث السياسي الليبي فوزي نجم أن جذور الصراع الحالي تعود لتلك الفترة، ففي تلك السنوات التي سبقت سقوط نظام القذافي، “التف حول نجله عدد من الشخصيات البارزة، الذين حاول أن يقود بهم موجة التغيير في البلاد، بعضهم من قيادات تيار الإسلام السياسي، مثل علي الصلابي والصادق الغرياني وسليمان دوغة وغيرهم، وزعامات التيار المدني مثل المرحوم محمود جبريل وعلي الترهوني، رئيس هيئة كتابة الدستور بعد الثورة، ووقع بينهم تنافس كبير تلك الفترة للسيطرة على الرئيس الجديد المرتقب قليل الخبرة والتجربة، ولين الطباع عكس والده”. وأضاف “هذا التنافس الذي كان شرساً في الخفاء، وخلف الكواليس تسبب في عداء بين الطرفين وانعدام الثقة بينهم، ظهرت آثاره بوضوح عند تصدرهم للمشهد السياسي بعد الثورة، وتشكلت معه حالة اصطفاف مجتمعي خلفهم تحول لانقسام حاد وحرب في مراحل تالي”.
دهاء الإخوان وقلة تجربة المنافسين
ويعتقد نجم أن سبب قفز الإخوان في ليبيا إلى صدارة المشهد بسرعة، راجع لـ “خبرة جماعة الإخوان الليبية في العمل السياسي، وتنظيمها وإستراتيجياتها الجاهزة والناجعة المستمدة من السياسات العامة الثابتة للتنظيم الدولي المتشعب، مما جعلهم يعرفون قواعد اللعبة قبل منافسيه”.
موضحاً أنه “في الوقت الذي كان الجميع منشغلاً في ليبيا بالمعركة ضد القذافي لإسقاط نظامه، كان الإخوان بخبرتهم وعلاقاتهم الدولية الواسعة يعرفون أن هذه المسألة محسومة في دوائر القرار الدولي، ويتجهزون لما بعدها بالتغلغل في مؤسسات الدولة السيادية والهيمنة على المؤسسات الاقتصادية، وحتى إعداد الأذرع العسكرية الموالية لاستخدامها للوصول إلى السلطة إذا ما دعت الحاجة، وهو ماحدث لاحقاً”.
سعة التجربة وقوة السلاح
ويتفق الصحافي الليبي محمد بزازة على لعب التجربة والخبرة والدعم الخارجي لحزب الإخوان في ليبيا، دوراً بارزاً في ترجيح كفتهم على خصومهم السياسيين، إذ “أظهرت وجود هوة واسعة بين تجربة الإخوان السياسية وخصومهم، منذ أول انتخابات في ليبيا، فقد لعبوا لعبة ماكرة لكسب أول معركة بعد الثورة، بضغطهم لسنّ قوانين انتخابية خطيرة، ظهرت نتائجها في ما بعد”.
ويبين بزازة خطورة هذه القوانين، وكيف خدعت الشعب الليبي بأكمله، في شأن نتائج الانتخابات التشريعية في البلاد، التي كانت تشير إلى خسارتهم فيها، قبل أن يتضح أنهم يشكلون أغلبية في البرلمان “تم تمرير هذا القانون الانتخابي الخطير، من دون أن تنتبه الأحزاب المنافسة للإخوان لخطورته ولقلة تجربتها، فقد نص على منح 40 في المئة من المقاعد فقط للقوائم (الأحزاب)، في مقابل 60 في المئة للأفراد المستقلين”.
ويشير إلى أنه “من أصل 200 مقعد في المؤتمر الوطني العام (البرلمان التأسيسي) الذي انتخب في 7 يوليو (تموز) 2012، كان 80 مقعداً فقط مخصصاً للأحزاب، بينما 120 مقعداً حجزت للمستقلين”.
ويرى أنه على الرغم من فوز تحالف القوى الوطنية، الذي كان يقوده المرحوم محمود جبريل في الانتخابات، ونيله 39 مقعداً في البرلمان، في مقابل 17 مقعداً فقط لحزب العدالة والبناء الإخواني، الذي يقوده محمد صوان، إلا أنه وجد نفسه أقلية بين أغلبية من المستقلين الموالين لتيار الإسلام السياسي، مما دفعه إلى تجميد نشاطه في البرلمان والحكومة في 2013 “.
ويقول إنه “بخروج حزب الراحل محمود جبريل من المشهد، وهو الذي استمد اسمه من تحالف كل القوى المدنية فيه، لمنع تغول تيار الإسلام السياسي الذي ظهر مبكراً بعد الثورة، خلت الساحة للإخوان، لعدم وجود أحزاب ليبية مؤثرة أخرى قادرة على الثبات في المواجهة أمام خبراتهم ودعمهم الخارجي الكبير، وكسبهم لولاء أمراء الحرب البارزين، خصوصاً غرب ليبيا”.
ويستطرد، “حتى عندما كانوا قريبين من مغادرة المشهد بقوة السلاح، في المعركة مع الجيش الوطني في العاصمة طرابلس، بعد انقلابهم على نتائج الانتخابات البرلمانية الثانية، التي خسروها خسارة فادحة عام 2014، استغلوا مرة أخرى القدرات التي يملكها التنظيم الدولي الذي يتبعونه، بتدخل تركيا في اللحظات الأخيرة، وإنقاذهم وفرض استمرارهم في المشهد، على رغم الرفض الشعبي لهم، والذي عبرت عنه نتائج الانتخابات المشار إليها”.
ليس ذنب “الإخوان”
ويرفض الصحافي الليبي إبراهيم حدود أن يوجه الانتقاد لحزب “الإخوان المسلمين” لمجرد أنهم أكثر تجربة وتمرساً من باقي الأحزاب، ويرى أن “المشكلة في الأحزاب الأخرى التي بنيت ليس على مشروع متكامل، بل على شخصية كاريزمية في الغالب، مثل حزب التحالف الذي قاده الراحل جبريل، والذي فقد زخمه وتأثيره بوفاة الرجل أو رؤوس الأموال الفاسدة التي أفسدت المشهد السياسي أكثر مما أضافت إليه”.
ويشير إلى أن الأحزاب الليبية التي ولدت بعد الثورة، “ولدت ميتة، والحياة الحزبية في ليبيا تحتاج إلى عقدين لتنضج بسبب حال التصحر السياسي التي فرضها القذافي لأربعة عقود، ولأسباب متعلقة بالقوانين التي ولدت على إثرها هذه الأحزاب، والتي لم تقنن عملية تكوينها بطريقة صحيحة، فتحولت عملية تشكيل الأحزاب إلى عملية عشوائية وسيطر عليها المال السياسي الفاسد، لذلك فشل أغلب الأحزاب التي ولدت بعد الثورة هو أمر طبيعي ومتوقع”.