إسرائيل ترفض المصالحة مع تركيا
تقابل إسرائيل كل الخطوات التركية الأخيرة للمصالحة معها، بفتور ملحوظ. فعلى الرغم من مرور ما يزيد على الأسبوعين على إعلان أنقرة تعيين، أفق أولوتاش، سفيرًا جديدًا لها في تل أبيب، إضافة إلى ما سبق ذلك الإعلان أو تلاه، من أحاديث غير رسمية عن محادثات سرية بين الجانبين التركي والإسرائيلي، وتصريحات رسمية من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن رغبة بلاده في الصلح مع إسرائيل، فإن تل أبيب لم ترد على أي من ذلك كله، بما يعكس تناغمًا من طرفها مع رغبات الطرف الآخر. بل إن بعض التحليلات الإسرائيلية ذهبت إلى ما هو أبعد من التجاهل الرسمي الذي تتخذه الدولة العبرية تجاه نظام أردوغان، بالإشارة إلى أن كل ما يقوم به الأخير ليس أكثر من مجرد خدعة كبيرة، لن تنطلي أبدًا على إسرائيل.
المثال الأبرز على تلك التحليلات الأخيرة، ما كتبه، سيث ج. فرانتزمان، في «ذا جيروساليم بوست» يوم 13 ديسمبر الماضي (2020)، تحت عنوان «نظام أردوغان يسعى لعزل إسرائيل مستخدما مصالحة زائفة»، حيث يصف فرانتزمان المصالحة التي يروّج لها النظام التركي مع إسرائيل مؤخرًا بأنها «صلح مزيف» ومن طرف واحد، يحاول من خلاله الرئيس أردوغان تحسين علاقة نظامه بالإدارة الأمريكية الجديدة المنتخبة برئاسة، جو بايدن، والتي سوف تتسلم مهمتها رسميا يناير 2021 عبر بوابة تل أبيب، كما يسعى عبره إلى إفساد العلاقة الناشئة بين إسرائيل والدول العربية التي قبلت التطبيع معها خلال الفترة الأخيرة، وكذلك هدم التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل وكل من اليونان وقبرص في شرق المتوسط.
وفي لهجة تحريضية صريحة، يسوق المحلل الإسرائيلي الحجج التي تحتم رفض المصالحة التركية. فهو يشير أولًا إلى انبثاق تلك المصالحة عن حالة ظرفية خاصة، تتعلق بوصول جو بايدن إلى الرئاسة الأمريكية، وليس عن رغبة حقيقية لدى نظام أردوغان في إعادة العلاقات الثنائية بينه وبين إسرائيل إلى طبيعتها. وهذا ما يفسر المقالات التي ظهرت باللغتين العبرية والإنجليزية بإيعاز من تركيا، وتقترح المصالحة بين أنقرة وتل أبيب، بين يومي 5 و 6 ديسمبر 2020 -أي بعد ثبوت فوز بايدن برئاسة البيت الأبيض- عبر صحيفة «هايوم إسرائيل»، لسان حال اليمين الإسرائيلي الحاكم، والتي يقرأها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بانتظام.
وفي نفس سياق الترويج الإعلامي التركي لصلح مرتقب مع إسرائيل، أشار فرانتزمان إلى مقال نشره موقع المونيتور للكاتب التركي متين جوركان، تحدث خلاله عن الدور الذي يمكنه أن تلعبه خصومة تركيا وإسرائيل المشتركة لإيران، ودعمهما المشترك كذلك لأذربيجان في حرب ناجورنو كاراباخ الأخيرة ضد أرمينيا، في التقريب بين الرؤى التركية الإسرائيلية، وإنهاء الأزمة الدبلوماسية الممتدة بينهما من العام 2018، عندما طردت أنقرة السفير الإسرائيلي في أنقرة، وسحبت سفيرها من تل أبيب، احتجاجًا على قرار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس (2018).
إضافة إلى ما سبق، أشار جوركان في مقاله إلى أن محادثات استخباراتية سرية تدور في الفترة الأخيرة بين تركيا وإسرائيل حول عودة العلاقات بين البلدين. وهو ما دعمته تقارير لاحقة أكثر تفصيلًا، سلطت الضوء على اتصالات قام بها تحديدا رئيس الاستخبارات التركي هاكان فيدان مع مسؤولين من إسرائيل حول المصالحة. وقد رفض فرانتزمان أيضا كل تلك الإشارات المزعومة إلى محادثات «سرية»، مؤكدًا أنها على شاكلة مقالات «هايوم إسرائيل»، عبارة عن تمهيد تركي دعائي لأجواء الصلح مع الطرف الإسرائيلي، وكذلك رسائل إلى الإدارة الأمريكية برغبة الأتراك في إنهاء حالة التوتر مع تل أبيب. وفي سخرية، تساءل فرانتزمان قائلًا: «إذا كانت سرية، فلماذا تتحدث عنها تركيا كثيرًا للصحفيين؟!».
بل إن أفق أولوتاش نفسه، السفير التركي الجديد في إسرائيل، كان في تحليل فرانتزمان، دليلًا آخر على عدم صدقية نظام أردوغان في مسألة المصالحة مع تل أبيب. فـ أولوتاش، والمعروف عنه تخصصه بشؤون الصراع العربي – الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، إضافة إلى الشأن الإيراني، ويعمل حاليا رئيسا لمركز البحوث الاستراتيجية في وزارة الخارجية التركية، يشتهر هو والمركز الذي يديره بالعداء الصريح لإسرائيل والصهيونية. وفرانتزمان يستعيد ورقة بحثية نشرها أفق أولوتاش العام 2013، أشار فيها إلى الصهيونية باعتبارها “عنصرية دينية وثقافية”، ليؤكد على فكرته بأن أردوغان حتى لم ينتقي للدبلوماسية المستأنفة مع إسرائيل، شخص قادر على تلطيف الأجواء، بل ربما إشعالها أكثر.
العلاقة الممتازة بين أردوغان وحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس)، كانت كذلك في نظر فرانتزمان حجة لرفض إسرائيل الصلح مع تركيا. وهو يستخدم للتدليل عليها التقارير المنشورة مؤخرًا حول التأشيرات الممنوحة من نظام أردوغان لأعضاء حماس للإقامة في تركيا، إضافة إلى تقرير صحيفة (تايمز أوف لندن)، والمنشور في 22 أكتوبر 2020، حول المقر السري الذي تملكه حماس في إسطنبول، وتنفذ من خلاله حربًا سيبرانية، وعمليات ضد – استخباراتية موجهة لإسرائيل.
إلى جانب تحليل فرانتزمان، والذي لم يبقَ منه بخلاف ما سبق، غير تأكيدات مكررة في رتابة حول سياسات تركيا المناوئة لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، والتي لا ترغب أنقرة حقًا في العدول عنها، فإن الظروف الداخلية الحالية في إسرائيل، وكذلك العوامل الإقليمية المستجدة في منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط، تلعب أدوارًا حاسمة في تجميد مسألة المصالحة التركية الإسرائيلية.
ففي تل أبيب، انهارت حكومة التحالف الوطني بين بنيامين نتنياهو وحليفه بني غانتس بعد قيادة مشتركة للحكومة الإسرائيلية منذ أبريل 2020، وهو ما يعني العودة إلى الانتخابات لتشكيل حكومة للمرة الرابعة خلال عامين فقط. وفي استطلاعات الرأي التي تسبق الانتخابات الجديدة المزمع عقدها في مارس 2021، يتراجع نتنياهو كثيرًا أمام خصومه في اليمين الأكثر تشددًا حزب (يمينا). وبالطبع في مثل تلك الظروف، من المستبعد أن يلجأ نتنياهو إلى عقد صلح ضبابي مع تركيا، دون أن يضمن في المقابل تأكيدات من أنقرة بالكف عن دعم حماس، أو التوقف عن الانتقاد العلاني لإسرائيل. الأمر الذي قد يمنح منافسيه فرصة ذهبية للدعاية ضده بين الناخبين في تل أبيب.
التطبيع العربي الإسرائيلي الأخير له نصيب بارز أيضا في صمت تل أبيب تجاه المصالحة التركية. فآخر ما قد يفكر فيه قادة إسرائيل حاليًا، هو إغضاب الدول العربية المطبعة، خاصة الإمارات العربية المتحدة، والتي يحتدم التنافس بينها وبين تركيا في ملفات إقليمية واسعة خلال السنوات الأخيرة، من ليبيا وشرق المتوسط شمالا، حتى القرن الإفريقي جنوبًا، بصلح مع الأتراك، قد تتضاد بنوده مع المصالح الإماراتية في المنطقة، خاصة مسألة ثروات الطاقة المكتشفة في شرق المتوسط، والتي تتقاطع في الحقيقة مع ملف إقليمي آخر يضغط على إسرائيل، ويمنعها عن المغامرة بمصالحة مع نظام أردوغان.
والملف المشار إليه هو الخاص بالتحالف الذي يجمع إسرائيل مع اليونان وقبرص منذ فاتحة العام 2020 في ملفات الأمن والطاقة، وعلى أساسه، سوف تمد أنابيب بطول نحو 1900 كيلومتر مربع أسفل مياه البحر المتوسط، لتمرير الغاز الطبيعي المكتشف في الحقول الإسرائيلية والقبرصية واليونانية إلى جنوب أوروبا. هذا التحالف الضروري للغاية بالنسبة لإسرائيل، لأنه سوف يحولها مع حلفائها إلى مصدر لـ 10% من الغاز الطبيعي المصدر إلى أوروبا، يتوازى معه إنضمام الدولة العبرية إلى تحالف إقليمي ودولي مهم هو “منتدى غاز شرق المتوسط” ومقره القاهرة، ويتكون إلى جانب إسرائيل من دول مصر واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن، إضافة إلى الإمارات كعضو مراقب، ومهمته تنسيق الجهود بين الدول الأعضاء لتخليق سوق تكاملية للغاز الطبيعي المكتشف في شرق المتوسط. ولما كانت تركيا تنظر إلى المنتدى، وإلى كافة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية الأخيرة في المنطقة، بين مصر واليونان مثلا، باعتبارها تعديا على حقوق تركيا البحرية، وتتبنى وحدها أطروحة خاصة بها لما يجب أن تكون عليه الحدود المائية بين الدول المطلة على شرق المتوسط، فمن غير المنطقي أن تقبل إسرائيل بالتخلي عن التكتلات التي ساهمت في تأسيسها، لصالح اتفاق منفرد مع تركيا بشأن غاز المتوسط، لن يجلب فوق رؤوس المشاركين فيه سوى معارضة – بل وقطيعة – المجتمع الدولي.
كل ما سبق، يفسر الرفض الإسرائيلي -لا التأني- للمصالحة مع تركيا. فحرص تل أبيب على علاقتها الناشئة بالدول العربية، وحرصها على علاقتها باليونان وقبرص، ورفضها استمرار العلاقة بين نظام أردوغان وحركة حماس، وكذلك الانتقاد المتواصل من الرئيس التركي للممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وعلمها بعدم جدية تركيا، أو رغبتها في تغيير الممارسات الأخيرة، كلها أمور تفسر الرد الفاتر للغاية، وغير المتحمس من إسرائيل تجاه الخطوات التركية نحو المصالحة، وعدم إعلانها تعيين سفير إسرائيلي جديد في أنقرة، على غرار تعيين سفير تركي للأخيرة في تل أبيب. ووفقا لتقرير منشور حديثًا في المونيتور، فإن النظام التركي جمد بالفعل – نتيجة لما سبق – خطوة تعيين أفق أولوتاش في منصبه الجديد.