سياسة

دعنا من العثمانيين ولنتحدث عن الرومان


البعض يسألني من وقت لآخر: أليس في التاريخ سوى العثمانيين؟ ما لك تكثر من الحديث عنهم؟ لماذا لا تتناول غيرهم بالنقد؟.

حسنا، لقد أقنعتموني.. دعونا من العثمانيين ولنتحدث عن… فلنقل الرومان؟ نعم.. فلنتحدث عن الرومان..

الرومان يا صديقي كانوا دولة محاربة قائمة على التوسع والغزو وإخضاع الشعوب.. لم يتركوا شعبا وشأنه.. وللأسف فقد كان غزوهم بلدا غالبا ما يرتبط بأعمال العنف والانتقام الوحشي ممن يقاومونهم… خذ عندك مثلا حروبهم في شرق المتوسط، إن عبارة مثل “وأعملوا القتل في رجال المدينة وسبوا من أهلها قوما باعوهم عبيدا” هي نمط متكرر في تاريخ توسعهم في تلك المناطق.. مما يذكرني بسليم الأول العثماني عندما دخل بجيشه القاهرة ونفذ تهديده أن “يلعب في أهلها بالسيف” فقد عاقبهم على مقاومتهم جيشه بإطلاقه جنوده بينهم حتى أن مما قيل أنه قد قتل في القاهرة عشرة آلاف نفس و.. يا إلهي.. ها أنا قد شرد ذهني وتحدثت عن العثمانيين.. حسنا.. فلنعد للرومان.

عندما سيطر الرومان على بلاد الإغريق حرصوا على استرقاق أعداد كبيرة ممن يتقنون الفنون والعلوم والآداب ونقلهم إلى روما ليعملوا كمؤدبين لأبناء الأسر الكبيرة أو ليقوموا ببناء المنشآت الرومانية الضخمة، وهو نفس ما قام به سليم الأول عندما جمع أساطين الصناعات في مصر ونقلهم إلى إسطنبول لكي يبنوا له عاصمة ملكية تليق به… وها أنا قد شردت مجددا وعدت للعثمانيين فلا تؤاخذني.. فلنعد للرومان.

أما عن نظام الضرائب الروماني فقد ادعوا أولا الحفاظ على الأنظمة الضريبية السابقة ثم سرعان ما أوجدوا أسلوبا كارثيا لجمع الضرائب، كارثيا هذه تعود طبعا على الشعوب المقهورة، حيث أقامت السلطة الرومانية مزادات لمن يرغبون في تولي مهام جمع الضرائب في الولايات الرومانية، وكان كل مزايد يقدم عطاءه وصاحب أكبر عطاء هو الفائز حيث يتعين عليه أن يورد للخزينة الرومانية مبلغا يتعهد به مسبقا مقابل أن تُطلَق يده في جمع أكبر من هذا المبلغ فيؤدي المبلغ المتفق عليه للخزينة ويحتفظ بالباقي على سبيل الربح… فلو أن الضريبة الرومانية مثلا هي مبلغ 1000 فهو يجمع 5000 يعطي ألفا للسلطات ويضع 4000 في جيبه… صفقة رابحة، ليس لدافعي الضرائب بالتأكيد الذين حاولوا التعبير عن رفضهم ذلك عبثا إلى حد قيام الفلاحين المصريين بهجر أراضيهم احتجاجًا على ذلك الجور.. وهو ما يشبه تماما نظام “الالتزام” الذي وضعه العثمانيون حيث كانوا يقيمون مزادات مشابهة وصاحب العطاء الأعلى يفوز بالالتزام للمنطقة المحددة في المزاد، وهو الأمر الذي أدى لمظالم شنيعة تسببت في مصر مثلًا أن هجر الفلاحون قراهم واتجهوا للمدينة.. اللعنة! ها أنا ذا أفعلها مجددًا! يا لشرود الذهن هذا!.

المهم.. عودة للرومان، فكلما ارتفع صوت يندد بقهرهم الشعوب واستنزافهم ثرواتها وجد من يصيحون به أنه جاحد ناكر لجميل هؤلاء السادة الذين تكبدوا العناء ليخلصوه من ظلم حكامه السابقين وليقروا السلام (السلام الروماني/Pax Romana) وأن لولا الدولة الرومانية لاجتاح البرابرة الهمج البلاد ولظلموا العباد، لو تريد مثالا مشابها فهو نفس ما يقال لمن ينتقد غزو العثمانيين مصر حيث يقال له أن لولا الدولة العلية العثمانية لاجتاح الفرنجة مصر وبلاد المسلمين وأن فرض الاستقرار والسلام على بلاد الإسلام هو من الأيادي البيضاء لسلاطين آل عثمان.. وها هو شرود الذهن اللعين يجرني لحديث أحاول تجنبه، فأرجو ألا أكون قد أضجرتك بذلك.

ومن عيوب الحكم الروماني تطبيق هؤلاء سياسة “فرق تسد/ Devide et impera” بين فئات الشعوب الخاضعة لهم، وهذا حتى يضمنوا وجود حالة من الشقاق والفرقة تمنع اتحاد هذه الشعوب ضدهم ومطالبتها بالتحرر، يمكننا أن نرى شبها لذلك في قيام العثمانيين بإثارة الفتن والوقائع بين البيوت الكبيرة في الشام من شهابيين ومعنيين وآل العظم والزيادنة وغيرهم.. فكانوا ينظرون بعين الرضا للاقتتال الداخلي بين هؤلاء حتى إذا ما قضى بعضهم على بعض سهل على العثمانلي أن يقضي على المنتصر الذي انهكته الحروب.. جل من لا يسهو… هل أطلب منك أن تنبهني في المرة القادمة إذا ما شردت مجددا وغادرت حديثنا عن الرومان إلى الحديث عن العثمانيين؟.

المثير في نهايات الدولة الرومانية أنها قد استعانت بهؤلاء الهمج البرابرة الذين كانت تخوف منهم الشعوب، وهو الأمر الذي سهل على هؤلاء أن يسيطروا على روما بل أن يغزوها ويسقطوا الإمبراطورية الرومانية… تماما كما فعل العثمانيون عندما ظلوا يخوفون الشعوب الخاضعة لهم من الغزاة الأجانب من روس وفرنسيين وبريطانيين، ثم سرعان ما استعان العثمانيين بهؤلاء لحماية العاصمة اسطنبول، فراحت تلك الدول تتدخل في الشأن العثماني حتى سقطت الدولة العثمانية وورثت القوى الاستعمارية ممتلكاتها.. ماذا؟ العثمانيين مجددا؟ حسنا فعلت أن نبهتني لشرودي.. ولكن بالله عليك ماذا أفعل في تلك المشكلة؟ فأنا كلما قرأت تاريخ الرومان قفز إلى ذهني تاريخ العثمانيين والعكس كذلك… هل تعقد أن ثمة تشابه يمكن أن يكون هو السبب في هذه الظاهرة الغريبة؟.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى