هل لبنان مستقبل تونس؟
لبنان يسكن المخيال الشعبي التونسي منذ السنوات الأولى من عمره. يلقّنه المعلم أن بلاده وريثة قرطاجة القديمة التي أسستها الأميرة الفينيقية أليسار.
وليس هناك من جيل اليوم من لم ينهل من معين الأب حنا الفاخوري وموسوعته “تاريخ الأدب العربي”، ولم يتأثر بسائر أدباء لبنان ومفكريه.
ورث التونسيون، جيلاً بعد جيل، تناغماً فنياً وحسياً مع لبنان. وتعوّد الكثيرون منهم منذ الصغر على أغاني فيروز تبثها الإذاعات المحلية كل صباح، فيستمع إليها كل تونسي عبر المذياع في البيت والسيارة والشارع.
يحس الكثير من التونسيين اليوم أنه لا العطلة الصيفية اكتملت ولا احتفاليات آخر السنة سيكون لها رونقها المعهود، بعدما غيّبت جائحة كورونا الفنانات والفنانين اللبنانيين عن إحياء حفلاتهم والمشاركة في مهرجانات تونس.
حفلات ماجدة الرومي وراغب علامة وعاصي الحلاني وكارول سماحة وباليه كركلا، وقبلهم جميعاً حفل فيروز في مهرجان قرطاج في الثمانينات، أعطت مهرجانات قرطاج والحمامات وطبرقة رونقها وملأت مدارجها بالساهرين.
في ظل هذا التناغم كانت هناك اختلافات في طبيعة المجتمعين التونسي واللبناني، ولكن الاختلافات كانت مصدر إثراء وتلاقح.
اشترك المجتمعان دوماً في ميلهما إلى الانفتاح على الخارج ولو بدرجات مختلفة. انفتاح لبنان ساعد عليه، ربما، تنوّع نسيجه الديني والاجتماعي وتعايش طوائفه المتعددة. تونس لم تعرف مثل ذلك التنوع كثيراً، بخاصة منذ مغادرة معظم الأقليات الأوروبية البلاد بعد الاستقلال.
وانتماء التونسيين في أغلبيتهم الساحقة إلى النسيج الديني والعرقي نفسه لم يعوّدهم على فكرة أن الهوية العربية لا تعني بالضرورة أن تكون مسلماً. ولكنهم في نهاية المطاف تعودوا. وكان لبنان نموذجاً ساعدهم على اكتساب فهم أوسع للانتماء العربي المشترك.
لم تكن الأمور دائماً كذلك. ما زلتُ أتذكر كيف أن والدي رحمه الله سمعني يوماً أردّ على سائل أراد أن يعرف من هم الكتّاب العرب الذين أميل إليهم أكثر من غيرهم. فأجبت من دون تفكير طويل: ميخائيل نعيمة وفؤاد سليمان وجبران خليل جبران.
كان تعليق والدي في شكل سؤال لم أتوقعه: “كلهم مسيحيون؟”.
هكذا كان منظور الأجيال السابقة. أما الأجيال اللاحقة بعد العقود الأولى من الاستقلال فلم تعد تسأل عن دين فيروز أو ماجدة الرومي أو راغب علامة.
والقليل ممن رددوا أغاني مرسيل خليفة الملتزمة القضايا العربية كانوا يسألون عن دينه.
ذلك من فضائل لبنان على التونسيين.
اليوم يغيب الفن والفنانون من جملة الاهتمامات ذات الأولوية بالنسبة الى أغلبية التونسيين وإن بقي لبنان في البال. تجلّت المشاعر التلقائية تجاه لبنان في تونس عند حدوث انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب الماضي، من خلال تظاهرات التعاطف في الشارع وعلى المنصات الاجتماعية مع ضحايا الكارثة التي أصابت لبنان.
ولكن تبقى متابعة التونسيين للتطورات في لبنان، وإن كانت عفوية، متابعة انطباعية إلى حد بعيد، ولا تغوص في التفاصيل الدقيقة للحوادث ولا هي مهيأة لفهمها ملياً إلا بالنسبة الى البعض من النخبة.
وهذا ليس غريباً، فالتونسيون انصرفوا خلال العشر سنوات الأخيرة عن شؤون أي بلاد غير تونس. مثلهم مثل اللبنانيين وسائر الشعوب العربية الأخرى التي تواجه أوضاعاً مضطربة وصعوبات حياتية متزايدة، يستأثر الشأن الداخلي، بهمومه الكثيرة، بكامل الاهتمام لدى التونسيين. وكما يقول البعض منهم “ما عندنا يكفينا”.
وأضحى الاهتمام مركّزاً على المشاغل اليومية وتأمين الحاجيات الأساسية، والصراع على رفع تحديات الأزمة الصحية والضائقة الاجتماعية وما تعنيه من ارتفاع في نسب الفقر والبطالة، إضافة للأزمة السياسية المتعددة الأوجه.
برغم هذا الخضم، ترمي الأزمة اللبنانية بظلالها على تونس.
فالبعض من التونسيين هذه الأيام يقارنون أوضاع بلادهم بأوضاع لبنان. وكثيراً ما تتنزل المقارنة في إطار التحذير مما يمكن أن تتطوّر إليه الأمور في تونس إذا ما تواصل تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي فيها على الوتيرة الحالية نفسها.
أحد السفراء السابقين لتونس في بيروت قال لي الأسبوع الماضي وهو يتحدث عن الوضع المتأزم في البلدين: “أحياناً أشعر بأن لبنان هو مستقبل تونس”.
فسّر الدبلوماسي التونسي السابق قوله بالإشارة إلى المؤشرات المالية في كلا البلدين، من عجز في الموازنة وارتفاع في مستوى الدين وضغوط من أجل تقليص الإنفاق الحكومي. وأعرب عن رأيه بأن الأزمة الاقتصادية قد تكون اليوم أعمق في لبنان، ولكن تونس إن استمرت على منوالها الحالي، وبخاصة إن واصلت الطبقة السياسية عدم تحمل مسؤولياتها، فسوف لن تكون البلاد بمنأى عن تطوّر كارثي للأزمة.
حسن الزرقوني، رئيس مؤسسة استطلاع الرأي “سيغماكونساي”، حذّر في حديث صحافي أخيراً: “إذا لم تتعاف تونس في أسرع وقت ممكن، فإن المتلازمة اللبنانية تتربص في الأفق، وسيكون ذلك خسارة كبرى لأن تونس، مثل لبنان، لديها إمكانات هائلة تسمح لها بالوقوف مجدداً على قدميها وإعادة اكتشاف ذاتها”.
وأضاف أن “هذه الإمكانات تتمثل أساساً في رأسمالها البشري وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب البحر المتوسط بين أوروبا شمالاً وأفريقيا جنوباً، وبين الشرق والغرب”.
وإذ يشترك التونسيون واللبنانيون في احتجاجاتهم المتواصلة على ظروفهم الصعبة، فإنهم أيضاً يتقاسمون في أغلبهم الشعور بأن تدهور الأوضاع الى هذا الحد ليس قدراً ولا إنصافاً لهم ولبلادهم.
في كلا البلدين، كما في الكثير من بلدان المنطقة، هناك أسباب وعوامل مختلفة أدت الى الأزمة الحالية، منها المرتبط بالسياسات الاقتصادية الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية. ولكن بلوغ أي دولة مرحلة الأزمة العميقة التي تهدد ببلوغ مرحلة الفشل الكامل ما كانت لتحدث من دون القرارات الخاطئة التي يتحمّل مسؤوليتها السياسيون قبل غيرهم.
بعد عقد من سوء التصرف وإهدار للموارد، دخلت تونس مرحلة التعويل على الدعم المالي الخارجي والديون المتراكمة من أجل تأمين التوازنات الضرورية للدولة، وليس من أجل بناء أي مشروع مستقبلي.
بالنسبة الى معظم التونسيين الذين يقارنون بين وضعي لبنان وتونس، الهدف فقط هو تحذير التونسيين من أن مواصلة السير على درب الحوكمة غير الرشيدة والتهرب من الإصلاحات التي لا مفر منها سوف تضع البلاد في طريق مسدود طال الزمان أو قصر.
والأكيد أن وهن النسيج الداخلي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي يضع البلدين، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، عرضة للضغوط الجيوستراتيجية والأنواء الخارجية التي يمكن أن تحدّ من قدرة أي بلاد على اتخاذ القرار المستقل.
في نظر الكثيرين تعتبر الأزمة الحالية من أسوأ الأزمات التي مرّت بها البلاد منذ استقلالها سنة 1956، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق. وذلك يجعل مجتمعها تتقاذفه نوازع الاحتجاج تارة والإحباط والبحث عن الهجرة الدائمة من البلاد تارة أخرى. ولم تكن الرغبة في الهجرة الدائمة بمثل هذه الحدّة لدى الشباب التونسي مثلما هي اليوم.
ولعل فقدان الثقة الجماعية في النفس وفِي قدرة البلاد على تدارك أوضاعها هو أخطر ما قد تولّده الأزمة. وهو ما لم تبلغه تونس حتى الآن وما قد يوفر لها حبل النجاة إن استفاق سياسيوها في الوقت المناسب.
تونس ولبنان، وإن كانا بلدين صغيرين، يجمعهما اليوم الانشغال الشديد بالمستقبل، فإن لشعبيهما من الطموح والوعي بالإمكانات الكامنة، برغم كل شيء، ما يترك فسحة للضوء في آخر النفق.
ويبقى لبنان بأبعاده الحضارية وقدرته على الخلق والإبداع ضمن ملامح المستقبل الذي ينشده التونسيون، حتى وإن كان الانشغال بالأزمة الراهنة هو اليوم سيد الموقف.
* نقلا عن “النهار“