ما بعد الجائحة؟ الثورة أم الثروة؟!
ليس سهلا أن نتعرف على عالم ما بعد “الجائحة“، وهي أولا لا تزال جارية في كثير من دول العالم بدرجات مختلفة؛ وثانيا أن تهديدها بالعودة حتى بعد التخلص منها أو الوصول إلى نقطة “صفر عدوى”، يكاد تؤكده كل الجماعات العلمية في العالم؛ وثالثا أن الشواهد العالمية منقسمة عما سوف يتركه لنا المرض الوبائي من أوضاع بائسة في الدنيا تدفع في اتجاه ثورات الجياع، أو أن الواقع هو استمرار توليد الثروة واستثمارها من أجل جلب المزيد من الثروات؛ ورابعها أن هناك معامل هام يحرك الدنيا كلها سواء كان هناك وباء أو كان هناك ثورة، وهو المحرك التكنولوجي الذي لا ينفك يفاجئنا بوسائل جديدة للعيش والتقدم. الثابت في كل ما سبق هو أن هناك علاقات جدلية بين كل ما جرى ذكره من تطورات، فهي لا تحدث بمعزل عن بعضها البعض، وإنما تتزامن وتتفاعل وتتشابك كما حدث في كل مرحلة تاريخية من قبل. “الجائحة” في هذه الحالة تلعب دور “المعجل” أو ” Catalyst ” في التفاعلات الكيماوية حيث يكون كاشفا من ناحية عن القدرات أو غيابها؛ ومن ناحية أخرى يدفع العالم وساسته في اتجاهات جديدة. وعلى سبيل المثال فإن الشائع في الفكر الدولي أن أزمة الفيروس التاجي دفعت في اتجاه تدخل الدولة أكثر في الاقتصاد والمجتمع، لأن التعامل مع الأزمة يحتاج قرارات سيادية لا تملكها إلا الدولة. ولكن كما سوف يأتي فيما بعد فإن ذلك ليس صحيحا أو ليس صحيحا على إطلاقه، وأنه في الواقع هناك شواهد على أن الجائحة ولدت خاسرين وفائزين، وفي هذه الفئة الأخيرة توجد بدايات الانطلاقة المقبلة من قبل القطاع الخاص المجدد والمبدع.
المشهد الافتتاحي أن العالم قد مر بأزمة قاسية ليست صحية فقط، ولكنها اقتصادية بامتياز. الولايات المتحدة وأوروبا والهند واليابان ظلت مغلقة فعليا أمام رجال الأعمال وسكانها بدرجات متفاوتة من “الإغلاق” و “الملجأ في المكان” و “التباعد الاجتماعي”. ورغم أن الصين تعيد حاليا فتح المصانع والمطاعم والمحلات التجارية، لكن هذه جميعا ليست لديها الأحجام العادية للأعمال التجارية، ولا عودة جميع عمالهم إلى العمل، ولا عودة سلاسل التوريد الخاصة بهم إلى وضعها الطبيعي. في فبراير وأوائل مارس، خسرت أسواق الأسهم العالمية أكثر من 30٪ من قيمتها، أي ما يعادل 28 تريليون دولار أمريكي تقريبا. بعض من هذا جرى استرداده خلال الشهور الماضية، ولكن استدامة الارتفاع الحالي مفتوحة إلى حد كبير للتساؤل. أسواق السندات العالمية في حالة هبوط حر بسبب الائتمان غير الاستثماري وتكاليف الاقتراض آخذة في الارتفاع. إن مخاطر التخلف عن سداد الديون آخذة في الارتفاع في كل مكان، ولا سيما في الصين والأسواق الناشئة. شهدت البنوك زيادات كبيرة في دفاتر قروضها ومخصصات الديون المعدومة، وأصبحت مبدئية في الإقراض للجميع باستثناء أكبر العملاء وأكثرهم جدارة بالائتمان. أسواق العقارات ترنحت، وكذلك مراكز التسوق انكمشت، وكبرى السلاسل العالمية أفلست أو أخذت طريقها إلى الإفلاس. انخفضت التجارة العالمية في الخدمات أكثر بكثير، انخفض السفر الجوي العالمي بأكثر من 60 ٪ خلال الشهور الستة الأولى من الأزمة. العالم في حالة ركود بالفعل، ويقدر إجمالي الخسائر العالمية التراكمية للإنتاج بما يصل إلى 9 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2021، على مقربة من 10 ٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي السنوي قبل الأزمة. تقدر منظمة العمل الدولية أن مليار وظيفة في خطر عالمي بسبب الإغلاق الاقتصادي. وقد تقدمت أكثر من 90 دولة بالفعل بطلب للحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي في حالات الطوارئ.
هذه الصورة منذرة بتطورات اجتماعية وسياسية خطيرة، خاصة في الدول كثيفة السكان عالية الإصابة بالمرض مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك وإيران وتركيا. أشكال مختلفة من الفوضى الاجتماعية تدفع إلى ثورات وانقلابات تطيح بنظم وتأتي بغيرها أو تبقي الفوضى مستمرة. ولكن القصة هكذا ليست مكتملة، فالحقيقة هي أنه بينما كانت الخسارة كبيرة، فإن العالم هذه المرة كان أكثر حصانة بالتعامل مع الأزمة ليس فقط من الناحية الصحية ولكن أيضا من الناحية الاقتصادية. وذكرت صحيفة “بيزنس انسايدر” أنه في الوقت الذي بدأ فيه الوباء لأول مرة في التأثير سلبا على الاقتصاد الأمريكي، شهد أغنى 12 شخصًا في الولايات المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في ثرواتهم الشخصية، مما أدى إلى زيادة قدرها 283 مليار دولار – بزيادة تقارب 40٪، وفقا للتقرير. في الواجهة يبدو الأمر كما لو كان أن حفنة صغيرة من الأغنياء قد ازدادوا غنى وبشكل فاحش. على وجه الخصوص، ذهبت المكاسب إلى المدراء التنفيذيين ومؤسسي أكبر شركات التكنولوجيا الأمريكية، والتي تجاوزت التوقعات. ومن بين أغنى 12 أمريكيًا شملهم تحليل معهد دراسات السياسة “IPS”، ينتمي ثمانية منهم إلى صناعة التكنولوجيا. ومن بينهم الرئيس التنفيذي لشركة أمازون جيف بيزوس “مع زيادة صافية منذ مارس 76.5 مليار دولار”، والمؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت بيل جيتس “16.1 مليار دولار”، والرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك مارك زوكربيرج “40.8 مليار دولار”، وإيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركة تسلا وسبيس إكس “48.5 مليار دولار”، والرئيس التنفيذي السابق لشركة مايكروسوفت. ستيف بالمر “18.8 مليار دولار”، ومؤسس أوراكل لاري إليسون “11.9 مليار دولار”، ومؤسسا جوجل لاري بيدج “16.5 مليار دولار” وسيرجي برين “16.5 مليار دولار”. في حين أن بيزوس كان المستفيد الأكبر من الوباء من حيث حصد أكبر زيادة في صافي الثروة، حقق ماسك أعلى نسبة مكاسب مع زيادة بنسبة 228٪، لترتفع ثروته الشخصية من 24.6 مليار دولار قبل الوباء إلى 73.1 مليار دولار اعتبارًا من 13 أغسطس، وفقًا لـ IPS مما جعله رابع أغنى شخص في العالم.
هذه الزيادة تبدو شكلية وشخصية، فالحقيقة غير ذلك وهي أنه بعد المليار الأول فإن لا أحد مهما كانت شراهته سوف يحصل في معيشته على ما حصل عليه بالفعل. والحقيقة هي أن ما حصل عليه هؤلاء هو نتيجة زيادة القيمة الفعلية لشركاتهم، وهو ما حدث نتيجة التطورات التكنولوجية الضخمة التي حققتها هذه الشركات في ميادين النقل والانتقال والتوزيع الذي ينبئ بثورة جبارة في الإنتاج العالمي. شركة آبل انطلاقا من قاعدتها التكنولوجية الضخمة في مجال الرقميات بطريقها الآن “لتثوير” كافة منتجاتها المعروفة ليس فقط في السرعة والأداء والقدرة فائقة التخزين. أمازون وتسيلا مزجا بين منتجاتهما ومجال الفضاء وتكنولوجيته؛ أعلنت وكالة ناسا وسبيس إكس إطلاق أول مهمة كاملة للشركة مع رواد فضاء في موعد لا يتجاوز 23 أكتوبر القادم. ويأتي هذا الإعلان بعد فترة قصيرة من العمل الناجح لرحلة اختبار SpaceX Demo-2، والتي حملت اثنين من رواد فضاء ناسا في أول مهمة مأهولة للشركة على الإطلاق. وتقوم المنظمتان حاليًا بمراجعة البيانات من مهمة Demo-2 لوضع نظام لنقل رواد الفضاء بشكل منتظم إلى محطة الفضاء الدولية. مجمع الثورات التكنولوجية الضخمة ربما كانت موجودة قبل الكورونا، ولكن الثابت أن هذه لم تعقها ولم تمنعها أن تجهز لعالم جديد أكثر غنى وقدرة على مواجهة الأزمات الصحية والاقتصادية ومعها اختراقات كبيرة في الأسواق والفضاء الخارجي أيضا.
نقلا عن العين الإخبارية