كيف ألقت الأزمة الليبية بظلالها السياسية على تونس؟
ألقت الأزمة الليبية وتداعياتها الإقليمية ثقلها على المشهد الداخلي في تونس، وعلى وتيرة استقرار الأوضاع هناك، في ظل تخندق حركة النهضة ضمن معسكر حكومة الوفاق، واصطفافها إلى جانب المشروع التركي في ليبيا، الأمر الذي انعكس على مشهد الصراع بين حركة النهضة وزعيمها، راشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب، وبين رئيس حكومة تصريف الأعمال، إلياس الفخفاخ، من جهة، والرئيس، قيس سعيّد، من جهة أخرى، ما أربك الوضع السياسي في تونس، ودفع الأخير إلى التحرك سريعاً بموجب مواد الدستور؛ حيث طلب من رئيس الحكومة تقديم استقالته في إجراء تكتيكي، يسمح له بقيادة المشهد السياسي، وإدارته بعيداً عن تصورات حركة النهضة، التي كانت تهدف إلى إسقاط الحكومة، وبسط رؤاها بفرض أهدافها الداخلية والإقليمية، بتشكيل حكومة جديدة على خلفية اتهامات طالت، الفخفاخ، تتعلق بالفساد المالي وتضارب المصالح، حيث أرادت النهضة صياغة الموقف التونسي، لحساب الأجندة التركية في الشرق الأوسط.
الرئيس يكشف تحركات النهضة
صاغ الرئيس، قيس سعيد، كلماته حين سلّم السيد، هشام المشيشي، خطاب التكليف بحيث استقرت –أي كلماته- في مواجهة حركة النهضة؛ حين أشار إلى تعطل استقرار الحياة السياسية منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في إشارة واضحة إلى تحركات النهضة، وسعيها نحو عرقلة تشكيل حكومة وطنية؛ تستهدف حلّ أزمات المواطن التونسي؛ اقتصادياً واجتماعياً، فضلاً عن حديثه الواضح حول اضطلاعه بكافة المهام المخولة لرئيس الجمهورية، للمحافظة على السلم والأمن الاجتماعيين، والمضي بتونس بعيداً عن وضع التشرذم والصراع السياسي.
قراءة طلب تقديم الاستقالة، وتكليف وزير الداخلية في حكومة، الفخفاخ، بتشكيل الحكومة الجديدة يجب أن يأتي في ضوء الهامش التكتيكي الذي يكفله الدستور للرئيس التونسي، رغم أنّ أجواء المشهد لا يبدو أنّها تحمل ملامح تغييرات جذرية في موازين القوى السياسية، بيد أنّ التحرك فرَض وضع الجميع أمام مسؤولياته، كما أنّه استوجب وضع عدة قيود على مسار حركة النهضة، في إطار تشكيل الحكومة، وقبولها في البرلمان بعد اكتمال صياغتها.
وبالتالي فإنّ أيّ سيناريو آخر سَيفرض مواجهة ذات طابع خاص، الأمر الذي يهدد مساحات الحركة وسط الشارع، ويفرض أطراً جديدة للمواجهة، وعلى خلفية ذلك نستطيع أن ننظر إلى تحرك الرئيس في ضوء رغبته في بسط نفوذه، على محددات المشهد السياسي، وأن يتقلد مهام مسؤولياته، ويقبض عليها في مواجهة عنفوان حركة النهضة، وأهدافها وأدوارها الوظيفية داخلياً وإقليمياً.
مناورة حركة النهضة لتفادي الصدام
يأتي بيان المكتب التنفيذي لحركة النهضة، والصادر في السادس والعشرين من تموز (يوليو) المضي، في جلسة استثنائية لتدارس المستجدات، في إطار المناورة السياسية، حيث بدأ البيان بتهنئة السيد، هشام المشيشي، بتكليفه من طرف رئيس الجمهورية، بتشكيل حكومة جديدة، داعياً إلى توسيع دائرة المشاورات مع الأحزاب، ووضع برنامج وطني لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، واتصل ذلك بالبند الثاني والأخير الذي دعت فيه الحركة كل مكونات الساحة السياسية إلى التهدئة والحوار، والالتزام بنهج التوافق، ودعم مقوّمات الوحدة الوطنية والاستقرار، ويأتي ذلك في نفس سياق محاولات التحرك بعيداً عن اتهامات عرقلة الحياة السياسية، ومساعي التمكين التي تتحرك نحوها حركة النهضة بقواعدها وأعضائها في البرلمان، مع دعم تحالفاتها بعدد من القوى السياسية.
جملة سطور البيان تشي بمحاولة دفع التهم عن الحركة، وإلقاء كرة اللهب بعيداً، مع التلميح بأنّ تكليف، المشيشي، إنّما جاء من طرف رئيس الجمهورية، وذلك لمجابهة أقصى السيناريوهات صعوبة، عند فشل التوافق على حكومته.
جاءت تحركات حركة النهضة وهي تدرك أنّ عليها التماهي مع الواقع الجديد الذي يشتد عوده في تونس، وأنّ رد الفعل يجب أن يكون في إطار السعي تجاه المرور من الأزمة وتداعياتها، وتجلّت تلك المرونة في رضوخ، راشد الغنوشي، لعقد جلسة لمناقشة لائحة سحب الثقة منه في مجلس النواب، حيث استقامت الجلسة، في الخميس الأخير من شهر تموز (يوليو) الماضي، وقد أدرك أنّ توازنات اللحظة السياسية تستوجب أن تمر الجلسة، دون أن يتحقق قرار سحب الثقة، وأنّ عليه ابتلاع مرارة السؤال، والرضوخ لآليات الديمقراطية التي تشدق بها عقب تجاوز لائحة سحب الثقة، نتيجة غياب عدد من ممثلي القوى السياسية.
مساحات المناورة وعوامل التهدئة
تجاوزت رئاسة الجمهورية وحركة النهضة في تونس، كافة مساحات المناورة طيلة الشهور الماضية، في عدد من الملفات السياسية، اتصل أغلبها بتشكيل الحكومة، واستقرارها في أداء مهامها، ومواجهة تحديات اللحظة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بيد أنّ تدافع وتيرة الخلافات، حسم قرار الصدام وحتمية المواجهة بين الطرفين، بكل ما تملكه رئاسة الجمهورية من آليات يُمكنها أن تمتد نحو حل البرلمان، والاندفاع نحو إقرار تشريعات جديدة، وهو الأمر الذي وضعه الرئيس أمام مخيال حركة النهضة، حين بادر بطلب تقديم الاستقالة من رئيس الحكومة، واعتبر أنّ ذلك بمثابة ورقة ضغط، عليه أن يستند إليها في إدارة المشهد المرتبك، فضلاً عن رصاص الكلمات التي أطلقها خلال الشهور الأخيرة ضد حركة النهضة، وضد، راشد الغنوشي، حين قال: “إنّ الشعب قادر على أن يسحب الوكالة، ممن خان الأمانة”.
تبدو تلك الخلافات واضحة وقائمة حول الوضع الداخلي في تونس، خاصة ما يتصل بالحركات السياسية، وما آلت إليه الأمور بعد العام 2011، ومدى إسهام تلك الحركات في تنمية الوعي السياسي، ودفع المجتمع نحو الاستقرار، والمشاركة في تنمية البلاد.
بيد أنّ جانباً آخر من الخلاف، تقوم عناصره حول خيارات تونس الإقليمية، وانحيازاتها الاستراتيجية حول الأزمة الليبية وأطرافها، ومدى اتصال الصراع وأطرافه بمسألة الأمن القومي التونسي، وبالتالي من الصعوبة أن نغفل، حين ندقق في سياق الصراع، رغبة الطرفين في ضرورة السيطرة على أغلب مفردات القرار السياسي وإدارته، بحسب رؤيته وأهدافه، وما يملكه من أوراق سياسية.
ويمكن القول إنّ الرئيس، قيس سعيد، لم يتأخر في إدارة ما يملكه من أوراق الضغط على حركة النهضة، ورفع الغطاء عنها أمام الشعب التونسي، وبدا ذلك واضحاً حين كشف عن حصول تلاعب في ملف بالمحكمة الابتدائية، لإبعاد تهمة إتلاف المال العام عن ابنة وزير النقل المقال، أنور معروف، المنتمي لحركة النهضة، وقد أشار إلى ذلك حين قال إنّه تبين التلاعب بالملف الخاص بتهشيم سيارة مملوكة للدولة في حادث مروري، وتزوير المحضر باسم سائق، على أنّه المتسبب في الحادث، وليس ابنة الوزير، وذلك عند استقبال وزير أملاك الدولة، غازي الشواشي، فضلاً عن الحديث عن الجهاز السري لحركة النهضة، والاتهامات المتواترة حول تورّطها في قضايا اغتيال شكري بلعيد، ومحمد البراهمي.
من الصعوبة حسم مسارات الصراع في تونس، وفصل العناصر الفاعلة والضاغطة على طرفي الأزمة في المدى القريب، بناء على المعطيات في الداخل، وتوازنات التكتلات السياسية، فضلاً عن الاستقطاب الذي تمارسه أنقرة، والذي بدا واضحاً في تهنئة، رجب طيب أردوغان، للرئيس، قيس سعيد، وراشد الغنوشي، بعيد الأَضحى، في خطوة يأتي تقديرها في محاولة تعميق التواصل الأيديولوجي والبراغماتي من جانب أنقرة.
نقلا عن حفريات