عاصفة كورونا ستنحسر.. فماذا بعد؟
في نهاية المطاف طال الزمن أم قصر ستنجلي عاصفة كورونا التي عكّر غبارها أجواء العالم وأطاحت بأكثر القلاع مناعة، ليبدأ بعدها الحديث عن الدروس المُستفادة. وبعد إنجلاء الأجواء سيبدأ الجميع، أفراد ودول، إحصاء خسائرهم الناجمة عنها. وبكل الحسابات الجميع كان خاسراً وإن تفاوتت أحجام هذه الخسائر بين شخص وآخر أو دولة وأخرى.
وبما أن كورونا ليس الوباء الأول الذي يصيب البشرية ولن يكون الأخير، مطلوب من كل ذي عقل الإفادة من دروسه، فالأزمات، على بشاعتها، هي أيضاً فرص ثمينة بما تلقنّا إياه من دروس.
أول دروس كورونا هو أنه أظهر لنا بوضوح خطورة ما تقترفه أيدينا، فكما هذه الأيدي مُعين لا غنى لنا عنه لمواجهة الحياة (وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، هي أيضاً وسائل فتك رهيبة، وما تقوم به أيدينا سيرتد إلينا ولو بعد حين، خيراً كان أم شراً.
ولو سألنا أنفسنا ما الذي فعلته أيدينا بأمنا الأرض؟ سيكون الجواب كارثياً. لذلك علينا الاعتراف بأن ما أصابنا وما قد يصيبنا لاحقاً، أسهمنا به نحن معشر البشر، بعد أن وصل استبدادنا بكوكب حياتنا إلى درجة انفجاره بوجوهنا جميعاً. فالمُستبد لا يخطر بباله أنه يحوّل ضحيته إلى ذئب كاسر، وأن الضغوط ستوّلد الانفجار لا محالة، وكوكبنا حيّ وقابل أصلاً للانفجار.
لنرَ إلى حجم الأذى الذي ألحقه الإنسان بأمه الأرض، صاماً آذانه عن صوت أنينها ووجعها، وطامعاً بحبها وحنانها ومتكئاً على بديهيّة أن الأم لا تؤذي أبناءها مهما قسوا عليها، ونسي أو تناسى أن صراع البقاء الذي تخوضه الأرض في مواجهة عقوق بني البشر قد بلغ ذروته، وبأن الأم مثلما هي طاقة حنان وتسامح هي أيضاً طاقة غضب وعقاب. ولن تسامح أبداً الابن الذي يقتل أخاه.
بحسب التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية ذات الصلة، فإن الإنسان أخذه الغرور بنفسه فتعالى على شركائه في الأرض، وسلبهم حقوقهم؛ حيث قطع الغابات وحولها لمرافق سكنية وسياحية وصناعية، ما أدى إلى رفع حرارة الأرض وانخفاض نسبة الأوكسجين وازدياد نسبة انبعاث ثاني أوكسيد الكربون. واعتدى على موائل الحيوانات البرية فهربت إلى موئله، وصارت أكثر قرباً منه واحتكاكاً به، وعدم ترك مسافة أمان كافية بينه وبينها واحد من مسببات نقل الفيروسات حسب العديد من البحوث الرصينة، التي أثبتت أن هذا العامل يتسبب بنشر أكثر من 30% من الفيروسات، كما أدى التصحير الناجم عن قطع الغابات إلى تكاثر الحشرات السامة، التي راحت بدورها تنشر الأمراض عند البشر.
الحروب واستخدام الأسلحة غير المشروعة أدى إلى تسميم مساحات واسعة من أراضي الدول، ونجم عنها أمراض كثيرة كالتشوهات الخلقية والسرطانات بأنواعها، ليأتي تلوث المياه فيزيد الطين بلّة. كما أدت الحروب إلى موجات نزوح كبيرة واضطرار ملايين البشر للعيش في تجمعات تفتقد لأدنى المقومات الآدمية، وبالتالي تحوّلت هذه التجمعات إلى بؤر لتوليد الأمراض ونشرها بكل اتجاه.
ولم يتوقف عبث الإنسان عند حد، فوصل إلى التلاعب بالجينات النباتية والحيوانية وربما البشرية، وكل ذلك من شأنه التسبب بانفجار الفيروسات، كما أدى الاستخدام غير الرشيد للكيماويات والأسمدة لتغذية النباتات والمواشي طمعاً بمضاعفة إنتاجها إلى اقتراف خطايا صحيّة وتوفير بيئات موائمة للأمراض.
لا شك في أن ثورة التكنولوجيا والحداثة سهّلت على الإنسان حياته، ولكنها عجزت عن جعله أكثر أمناً، خصوصاً من الناحية الصحية بعدما غيّرت الكثير من عادات البشر الصحية وعودت الإنسان على الكسل المصحوب بالتوترات والضغوط النفسية على مدار الساعة بسبب كثرة الالتزمات واللهاث خلف كل جديد، وبذلك انخفضت مناعته وصار صيداً سهلاً للأمراض والأوبئة. ولو أردنا الإسهاب أكثر في الحديث عن جرائم واعتداءات الإنسان عن محيطه وشركائه على كوكب الأرض لاحتجنا إلى مجلدات ولن تفي بالغرض.
فيروس كورونا أنشأ بين الناس وحدة حال على كوكب الأرض كلّه، فوحد همّهم وخوفهم وهلعهم.. وجمع شرق الأرض بغربها وشمالها بجنوبها وفقيرها بغنيها ومهمشها بنجمها والحاكم فيها مع معارضيه، وهي حالة نادرة في تاريخ الصراع البشري.
لذلك من الآن يجب على كل قائد ومسؤول حصيف تكوين مجموعة متخصصة لمتابعة ما يجري لحظة بلحظة، واستخلاص العِبَر ووضع رؤى واقعية للمستقبل، هدفها التخفيف من حدّة أي وباء أو كارثة مقبلين؛ لأن كورونا لم يكن أول الجوائح التي ضربت البشر ولن يكون الأخير. لذلك لا بد من تخصيص الموارد المالية الكافية للبحوث العلمية، وتحويل وزرات البيئة من لازمة ديكورية في الحكومات إلى وزرات سيادية بكامل الصلاحيات، وتعزيز المؤسسات الصحية وخلايا الأزمات في الدول، بعدما كشفت جائحة كورونا الكثير من الثغرات فيها، خاصة لجهتي الكفاءة والكفاية.
وعلى الصعيد العالمي، فضح فيروس كورونا هشاشة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية للكثير من الدول التي كنّا نعتقد بأنها مثالاً للجسارة والمنعة، وعصف بمفاهيم الحرية والشرعية والسيادة. كما عرّى دور المؤسسات الدولية وفضح عجزها عن القيام بالوظائف التي أنشأت لأجلها، وبأن هذه المؤسسات لم تحل نزاعاً واحداً، وإنما كانت مسرحاً للانتهاكات المفضوحة وعرضة للاعتداء المستمرة عليها وتفريغها تماماً من مضمونها.
وهذا يستوجب إعادة النظر بها وتقييم أدائها والعمل جدياً لإنتاج إطار جديد بصلاحيات ونفوذ واسعين، لاقتراح طرق وأساليب واقعية لوقف الانتهاكات واجتراح الحلول المنصفة للصراعات، وتزويدها بكل إمكانات فرض هذه الحلول، عبر هيئة حكماء مشهود لهم بالخبرة والنزاهة والحياد.
كما يجب تفعيل كل مبادرات التعايش والسلم الإنساني بعيداً عن العنصريات والشوفينيات الأيديولوجية والعرقية والقومية. وهنا أقترح الدفع بأقصى قوة لتشكيل ائتلاف سياسي وديبلوماسي عالمي، لجعل وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية دستوراً للبشرية جمعاء، تبعاً لما تحويه هذه الوثيقة من مبادئ فهم واحترام الآخر والاعتراف باختلافه وحقوقه، وهي خطوة أولى لا غنى عنها لوقف الصراعات بين البشر، وتحويل هذه الصراعات إلى منصّات لإبداع وإنتاج الأفكار الخلاّقة التي تحفظ الأرض وما عليها.
ويجب أن يكون ما قبل عاصفة فيروس كورونا مختلفاً تماماً عما بعدها، وإلاّ فنحن مضطرون لربط الأحزمة من الآن والتهيؤ لما هو أسوء، خاصة أن مفاعيل انتشار الفيروس المستجد على البشر والاقتصاد والعلاقات الدولية بصورة عامة لم تتبلور بعد، رغم ما تؤشر له من دمار وخراب غير محدودين.
نقلا عن العين الإخبارية