سياسة

عندما انتحل السلطان العثماني صفة الخلافة فأهانها


طوال التاريخ الإسلامي تطورت فكرة “رأس الدولة” حسب رؤية كل نظام حاكم.

فنظام الخلافة الراشدة قام على أربعة شروط رئيسية-أنصح بمطالعتها بشكل أوسع في كتاب “الأحكام السلطانية” للفقيه والقاضي أبو الحسن الماوري-هذه الشروط هي: البيعة الحرة بغير إكراه أو تدليس، العمل بالشورى في القرارات الهامة، الحكم بالعدل المبيّن شرعًا، قرشية النسب.. إضافة لشروط فرعية كسلامة الجسد والحواس، والاستقامة في السلوك الشخصي، وغيرها.

بقيام الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان بتغيير نظام تداول السلطة من الاختيار الحر والبيعة الحرة إلى “التوريث لولي العهد” تم إقصاء الشرط الأول سالف الذكر، وبقي الشرطان الثاني والثالث-الشورى والعدل-رهن سياسة الحاكم، بينما تم التمسك بشدة بالشرط الرابع-قرشية النسب-رغم اختلاف الأقوال فيه وقول البعض بأنه مرتبط فقط بفترة قوة قريش وغير ملزم فيما بعد ذلك من تراجع تلك القوة (راجع قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون في ذلك في مقدمة كتابة: (العبر وديوان المبتدأ والخبر)

المرحلة التالية.. حكم الأقوى.

ورث العباسيون هذا النظام وبقي الخليفة هو رأس الدولة شكلًا وفعلًا حتى نهاية العصر العباسي الأول بارتفاع نفوذ قادة الجند من الجنس التركي واغتيالهم الخليفة المتوكل على الله ثم ابنه المنتصر بالله، وتحول الخليفة إلى مجرد “صاحب منصب شرفي” بل ألعوبة في أيدي القادة الذين كان الحكم الفعلي بأيديهم.. ثم بدأت ظاهرة “الدولة داخل الدولة” بقيام أسر حاكمة كانت شكليًا تابعة للخلافة العباسية بينما هي فعليًا تتحكم في مساحات من دولة العباسيين كالدول الطولونية والأخشيدية والحمدانية والبويهية والسامانية، ثم ظهرت الدول التي شكلت إمبراطوريات كان حاكمها يقدم فروض الولاء الشكلي للخليفة العباسي بينما يتلقب-الحاكم-بلقب السلطان-أعلى لقب حكم “دنيوي” إسلامي- وهي الدول السلجوقية والزنكية والأيوبية والمملوكية.

لو نظرنا لتلك الدول لوجدنا قصتها متكررة: قائد قوي يفرض نفوذه ويحصل على تقليد من الخليفة بحكم قطاع ضخم من الدولة، فيتقدم ويبتلعه من حكامه طوعًا أو كرهًا، ثم بعد وفاته يليه ابن قوي ثم بعد ذلك تدخل دولته في مرحلة الاقتتال بين الورثة الذين إما أن ينتصر أحدهم ويتسيّد الموقف أو أن يضعفهم الاقتتال فيبرز بعض قادة جندهم ويقيم دولة لنفسه وأسرته ويرث دولة مخدوميه السابقين.. هكذا صعدت أسماء مثل طغرل بك السلجوقي وعماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومؤسسي دولة المماليك شجر الدر وأيبك وقطز وبيبرس.

وسواء كان الخليفة العباسي في سامراء أو بغداد أو القاهرة- بعد إحياء بيبرس الخلافة العباسية- فإنه كان قد تحول لمجرد صاحب منصب شرفي، يتسلط عليه حاكم قوي يكتب له الخليفة تقليدًا بأن “قد وليته ما وراء بابي”، وأنه “قسيم أمير المؤمنين سلطان المسلمين وما يُفتَح على يديه من البلاد الكفرية”، ويرضى الخليفة-على حد قول بعض المؤرخين-بأن “حسبه أن يقال له أمير المؤمنين”.. أي أنه قد تحول إلى منصب شرفي يظهر في المراسم الرسمية ويؤدي بعض التصرفات البروتوكولية.. ولكنه يمثل أهمية روحية للسلطان حيث يستمد شرعية حكمه من التفويض الخليفي.

أما السلطان نفسه، فقد تطور منصبه، فبعد أن كان هو الممسك بكل مؤسسات الدولة في قبضته، قام الظاهر بيبرس بتأسيس النظام المؤسسي وتوزيع المهام لمؤسسات ووظائف، وتقسيم الأعمال بين “أرباب السيف” و”أرباب القلم/أهل العمامة”، مما أدى مع الوقت لوجود ثقل قوي عند أرباب القلم خاصة رجال الدين والقضاة من ذوي الشعبية العالية، حتى أن بعض السلاطين الأقوياء كان لا يستطيع أن يقوم ببعض التصرفات المالية إلا بإقرار هؤلاء الفقهاء، كالسلطان الأشرف قايتباي الذي كان يريد موافقة قضاة المذاهب الأربعة على وضع يده على بعض الأوقاف والضرائب لتمويل حملته ضد التركمان العصاة، فتصدى له القاضي أمين الدين الأقصرائي ومنعه من ذلك.

كذلك تطور نظام تداول الحكم من الوراثة وولاية العهد إلى نظام “الحكم لمن غلب”، فلم يعد  منصب السلطنة وراثيًا وإنما كان إما لقائد قوي متغلب-كبيبرس وقلاوون وبرقوق وبرسباي والمؤيد وخشقدم وإينال وجقمق وقايتباي-أو لسلطان صوري يرث الحكم بشكل “رسمي” عن أبيه بينما الحل والعقد بيد أتابك عسكر قوي أو نائب سلطنة قادر أو دوادار متسلط.

لماذا لم ينتحل المماليك صفة الخلافة؟

السؤال هنا: لماذا لم يقرر أي من هؤلاء السلاطين أن يأخذ لقب الخليفة؟ إذا كان الحكم الفعلي بيده بينما للخليفة صفة شرفية وتعيينه أو عزله بيد السلطان.. فما الذي يعيق هذا الأخير عن حيازة اللقب لنفسه؟
الإجابة: ثمة سببان، الأول هو مراعاة احترام الشروط الشرعية للخليفة وعنصر قرشية النسب-الذي وإن كان مختلفا عليه إلا أنه كان محل تمسك والتزام-والمعروف عن المماليك أنهم كانوا يتمسكون بشدة بتلك الشكليات خاصة مع مساسها بالشعور العام للمسلمين.

السبب الآخر هو إدراك السلطان أن ثمة فرق بين “السلطان” و”الخليفة”، فبينما للأول مساحة من الحركة في تصرفاته وقراراته وسياساته وأفعاله لا تحدها قيود منصب الخلافة، فإن الخليفة كل حركة له محسوبة عليه.. بمعنى أكثر وضوحًا فإن نفس التصرف الذي قد تبتلعه الرعية من السلطان قد تثور بسببه على الخليفة، بل إن اقتناع الناس أصلًا بفكرة الخلافة وعلو مقامها-ولو معنويًا-يتوقف على بقاء صفة “الخليفة” منزهة عن مستوى القسوة الذي قد تبلغه أفعال “السلطان” (خاصة في العصر المملوكي المشهور بحالة التناقض الغريبة بين الرقي الحضاري من ناحية والدموية الشديدة في صراعات الحكم من ناحية أخرى).

والمماليك كانوا يدركون أهمية بقاء القيمة الروحية للخليفة منزهة عما يلوث سياسات السلطان أحيانًا من تآمر وعنف وبطش، لأن تلك القيمة الروحية هي التي تمد حكم السلطان بالشرعية.. وهو ما يفسر لماذا-رغم عدم وجود قوة مادية للخليفة-كان بعض الملوك المسلمين خارج نطاق الدولة المملوكية يرسلون للقاهرة يطلبون من الخليفة تقليدًا منه بحكم بلادهم نيابة عنه وعلمًا خليفيًا يرفعونه في حروبهم (وبعض هؤلاء كانوا من حكام العثمانيين!)

حقق المماليك إذاً المعادلة الصعبة المسكوت عنها: كيف تبقي على كل من الخلافة والسلطنة، وتبقي على احترام مقام الخليفة، وفي نفس الوقت لا تمس سيطرة السلطان!.

بقي هذا الحال حتى اجتاح العثمانيون بقيادة سلطانهم سليم الأول العالم الإسلامي وأسقطوا كلا من السلطنة المملوكية والخلافة العباسية.

الخلفاء الملفقون
في القرن الثامن عشر-وتحديدًا في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول-بدأت تظهر وتنتشر قصة تقول بأن الخليفة العباسي الأخير-المتوكل على الله-قد سلّم الخلافة للسلطان سليم الأول، وبهذا فإن السلطان هو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين.

الغريب أنه لا المصادر العربية ولا العثمانية قبل هذا الوقت تناولت هذه الواقعة المزعومة.. فلو نظرنا مثلًا في كتابات الرحالة العثماني-أوليا جلبي-والذي كان متعصبًا لآل عثمان، أو المؤرخ العثماني إبراهيم بجوي أفندي، فإننا لا نجد ذكرًا لواقعة التنازل وهي واقعة المفترض أن يحتفي بها المؤرخ العثماني.

ومن الناحية العربية لا نجد في كتابات ابن إياس-المعاصر لبداية الاحتلال العثماني- ذكرًا لهذا الخبر، وهو أمر جلل لم يكن ليتجاهله فواقعة خروج الخلافة من بيت عربي قرشي إلى بيت عجمي تركي هي واقعة مهولة لا يُسكَت عنها!.

بل لا نجد في كتاب سليم الأول لابنه سليمان يبشره بنصره على المماليك خبرًا لتلك الواقعة.. ولا نجد كذلك “محضر التنازل” حيث كان التنازل عن المنصب الرسمي-خاصة الخلافة-يتم بعقد محضر يشهده الفقهاء والقضاة والأمراء ووجوه الناس.

واقع الأمر أن السلطان عبد الحميد الأول كان آنذاك في حالة مفاوضات مع الإمبراطورية الروسية، وكانت روسيا تحاول أن تتدخل في شؤون الدولة العثمانية بادعائها الحق في فرض الحماية للمسيحيين الأرثوذوكس باعتبار أن القيصر الروسي هو وريث قيصرية بيزنطة الأرثوذوكسية (يدين الروس بمذهب الروم أرثوذوكس كالبيزنطيين)، فحاول السلطان العثماني رد اللعبة بأن ادعى في المقابل حقه في حماية مسلمي شبه جزيرة القرم بصفته-على حد قوله-“أمير المؤمنين وخليفة المسلمين”.. وهما صفتان كان بعض المتقربين من السلاطين ينادون السلطان بها نفاقًا (كما يحدث أحيانًا في زمننا الحاضر من قيام البعض بمحاولة التقرب من هذا الحاكم أو ذاك بتلقيبه بالخليفة أو “سادس الخلفاء الراشدين”).. فحاول السلطان عبد الحميد استغلالها لصالحه.. وتلقف أخلافه الكرة فكانوا يستخدمون تلك الورقة لفرض حماية روحية لمناصبهم وسلطاتهم.

وحتى عندما قام السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1876م بإعلان الخلافة رسميًا فإنه فعليًا كان يدق المسمار الأخير في نعش “احترام المسلمين لمقام الخلافة”، فهو نفسه كان مثالًا للاستبداد والتسلط من ناحية، والانبطاح من ناحية أخرى (خليفة المسلمين المزعوم تنازل عن جزيرة قبرص لإنجلترا مقابل حماية الأسطول الإنجليزي لبلاده من الأسطول الروسي، وهو الذي أصدر فرمانًا بعصيان عرابي ومروقه أثناء محاربة هذا الأخير للاحتلال البريطاني!) وانتهى حكمه معزولًا، ثم صار أخلافه ألاعيب لرجال السلطة حتى أسقط أتاتورك الخلافة رسميًا سنة 1924م (أي أن خلافة العثماني لم تكمل حتى نصف القرن ولم يكن لها أصلًا المقام السابق المرموق).

ختامًا
ما سبق يطرح سؤالًا فضوليًا: بين كل تجارب الخلافة وأنظمة الحكم الإسلامية، لماذا يتمسك ذوو “نوستالجيا الخلافة” بالنموذج العثماني الذي كان أوله ادعاء وأوسطه هزل وآخره فشل؟

هل ثمة علاقة بين ذلك وبين قيام حركة الإخوان المسلمين سنة 1928م لاعبة على مشاعر الصدمة عند البسطاء من فكرة سقوط “خلافة” العثمانيين قبل ذلك بأربع سنوات؟

هل لأنه النموذج “الأعلى ضجيجًا” بين اللاعبين على أوتار نوستالجيا الخلافة بينما هو “جعجعة بلا طحن”؟

هل لأن العثمانيون نجحوا خلال احتلالهم بلادنا في تغييب عقول الناس عن أمجاد تاريخهم الأقدم من الاحتلال العثماني، فاختصروا الإسلام ودولته في نموذج العثمانيين؟

أيًا كانت الإجابة فإنها تشير لما فعله العثمانيون في الوجدان الجمعي لقطاع ضخم من العرب والمسلمين من تدمير للوعي وتغييب للإدراك إلى حد انتقاء أحط نماذج الحكم الإسلامية وتقديمها على غيرها والتسبيح بحمدها آناء الليل وأطراف النهار!

عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى