لماذا يكره أردوغان فتح الله غولن؟
عقب اندلاع ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013 في مصر، على حكم جماعة الإخوان، طلب عدد من الدبلوماسيين الأتراك في مصر أن يجمعنا لقاء في مركز بحثي كنت أديره في وسط القاهرة، للنقاش حول تطورات المشهد السياسي بعد سقوط الجماعة ومشروعها.
كانت النظرة التقليدية لهؤلاء الدبلوماسيين لما جرى؛ أنّه “انقلاب” على حاكم مدني منتخب، وقد شرحتُ لهم خطأ تقديراتهم، وبيّنتُ كيف أدار الرئيس الإخواني محمد مرسي وجماعته مصر، وكيف تعاملوا مع القوى السياسية في مصر واحتقروها، ومارسوا شكلاً واضحاً من الإقصاء حتى لأقرب حلفائهم، فضلاً عن تعرضي لطريقة اتخاذ القرار داخل الجماعة وحزبها الصوري “الحرية والعدالة”، وعلى مدار أكثر من ساعتين، لمستُ قدراً من التفهّم من جانبهم لجريمة الإخوان في حقّ مصر، وفي حقّ أنفسهم، دون أن يمنعني ذلك من سؤالهم: لماذا تكرهون فتح الله غولن رغم أنّه يقف على الأرضية نفسها التي انطلقتم منها؟ فأجابوا: لأنّه يصنع تنظيماً موازياً للدولة، يمثل خطراً على بنية الدولة، فقلت: وهل فعل الإخوان في مصر غير ذلك؟ فلماذا تتعاطفون مع من يخلق تنظيماً موازياً في مصر، بينما تعادون من تدّعون أنّه يخلق تنظيماً موازياً في تركيا؟ وللحقيقة لم أظفر بإجابة شافية.
لكن السؤال بقي معلقاً: لماذا يكره أردوغان وحزبه فتح الله غولن وجماعته؟
كي نفهم أصول الصداقة ثم العداء بين الرجلين علينا أن نعود قليلاً للوراء؛ حيث جسد بروز أردوغان لحظة انقلاب على أستاذه نجم الدين أربكان، رغم أنّهما ابنا مشروع وحلم واحد، تمرّد أردوغان على حالة التكلس السياسي والتنظيمي التي أبداها أربكان، والتحليق في الأحلام بديلاً عن الواقع، والتماهي مع أحلام الخلافة، دون استناد وتبصّر كاف للواقع، سواء داخل تركيا أو في الأقاليم المؤثرة أو العالم بقواه.
كان أردوغان أمام أستاذين برزا داخل مشروع قد يبدو واحداً: الأول هو أربكان، والثاني هو غولن، وبدا التباين كبيراً بين الرجلين، بل ربما التناقض.
أسّس أربكان حزب “الرفاه” العام 1983، وفاز في انتخابات العام 1996، ليشكل حكومة وسلطة تفضح ممارساتها آثار بروز الإسلاميين في كلّ مجتمع، بانتشار التشظي والاختلاق تحت مظلة حالة الاستقطاب التي يصنعها الإسلاميون حيثما حلوا.
في المقابل؛ انشغل غولن بمقاومة هذه الحالة التي كان يراها تهديداً للسلم المجتمعي في تركيا، فأسس منصته التي حاول من خلالها تحرير المفاهيم المتعلقة بالدين والسياسة، مؤكداً أنّ الديمقراطية والتشاركية هي الضمانة الأمثل للمستقبل، خلف وجه الصوفية الذي كان يفضله وجسّد قوام فكرته، التي اتسمت بالانفتاح الفكري والإنساني، مقارنة بأفكار أربكان التي اختلفت في مسألتين مهمتين، عكستا عمق التناقض بين خطاب أيديولوجي مصمت متنكر للواقع يتبنّاه أربكان، وخطاب إنساني منفتح يتبنّاه ويراهن عليه غولن.
كانت نقطة الخلاف الأولى: النظرة للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية مؤثرة في واقع السياسة الدولية، فبينما كان يراها أربكان عدواً للعالم الإسلامي، تتحكم فيه الصهيونية العالمية، كان غولن يرى أنّ أمريكا والغرب قوى عالمية لا يجب إغفال قدراتها، بل التعاون معها إن أمكن.
أما نقطة الخلاف الثانية بين الرجلين؛ فكانت في نظرة كليهما للمجال الحيوي لتركيا، فبينما مضى أربكان في التعويل على ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، شارعاً في تأسيس كيانات تبرز إيمانه، كمجموعة الثماني، كان غولن أكثر واقعية في اعتبار المجال الحيوي لتركيا، تمثله دول القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان، واتسم غولن بالبراجماتية والذكاء، وراهن على بناء مؤسسات مجتمع مدني قوية تضمن قوة المجتمع في مواجهة أيّة سلطة، وراهن على الديمقراطية، بينما راهن أربكان على قوة التنظيم السياسي والديني، وبقيت عيناه مصوبتين نحو السلطة، ومشروع الخلافة الوهمي.
راهن غولن على بناء نخب تربوية وتعليمية، تخلص لقضية التربية وصيانة القيم الإنسانية في المجتمع دون سعي للوصول للسلطة، بمعنى تحول القيم إلى اختيار مجتمعي، وليس تنزيلاً سلطوياً، وهذا هو مربط الفرس في الخلاف بين أردوغان وغولن.
فرغم أنّ أردوغان كان معجباً بمهارات غولن؛ السياسية والبراجماتية التي وسمت سلوكه، سواء في العلاقة مع العسكريين أو القضاء، واستفاد أردوغان من تلك المهارات في تعبيد طريقه نحو السيطرة على الدولة التركية، فإنّ التناقض في النظرة بينهما حول العلاقة مع السلطة والعلاقة بين الدين والسياسة كانت جدّ متناقضة.
كان أردوغان يرى أنّ الحركة الدينية يجب أن تكون أداة تعبئة سياسية وشحن جماهيري، في الاتجاه الذي تريده السلطة، وأنّ الديمقراطية تقيد حركة السلطة، وأنّ السلطة من حقها أن تقيد الديمقراطية، وليس العكس.
بينما رأى غولن أنّ الإجراءات التي قام بها أردوغان، العام 2011، انقلاب على الديمقراطية، أسوأ عشرات المرات من الانقلابات التي قام بها الجيش التركي؛ حيث توسل أردوغان بآليات الديمقراطية في تعزيز صلاحياته، ظلّ غولن مخلصاً للديمقراطية، ولتصوره لدور الدين في الدعوة للقيم ورعاية مؤسسات تثقيف وتربية لا تنشغل بالسلطة، مما صنع لجماعة الخدمة نفوذاً كبيراً في نفوس العديد من الأتراك، هذا النفوذ سمّاه أردوغان وجماعته “التنظيم الموازي”، ولأنّ أردوغان يدرك جيداً قيمة وتأثير التنظيم؛ فقد اتهم غولن برعاية الانقلاب الفاشل والمثير للجدل، الذي جرى في الخامس عشر من تموز (يوليو) 2016، والذي عبّد طريق أردوغان في إخضاع الدولة للمزيد من سلطاته.
من يتابع الدراما التركية، المتجهة لصناعة أسطورة أردوغان، سيجد تركيزاً على بناء طاعة الشعب للقيادة التركية، وصناعة الملهم الموهوب، الذي يفترض أن يمثله شخص الحاكم أردوغان، الذي يسوقه إعلام الحزب كخليفة عصري يتغذى على أحقاد التاريخ.
يكره أردوغان غولن؛ لأنّه يفضح نهم السلطة في نفسه، وينسف مصداقية حزبه ومنظومته القيمية التي يدّعي الدفاع عنها.
يكره أردوغان غولن؛ لأنّه يريد صناعة مجتمع أقوى من السلطة عبر الوعي والتربية، بينما يسعى أردوغان لبناء سلطة تستلب المجتمع.
يكره أردوغان غولن لأنه ينسف فكرة الصراع بين فسطاط الخير والشرّ التي يدعو لها الأول، ويستخدمها مادة للتجييش والتعبئة، حتى أنّه لم يتورع عن توظيف حادثتي مسجدي نيوزيلندا، وزايد بها في معرض الانتخابات.
لا يراهن غولن على داعش أو الإخوان أو جماعات الإسلام السياسي، ولا يؤمن بالعنف، بينما لا يجد أردوغان غضاضة في توظيف كلّ تلك الأدوات.
يكره أروغان غولن كما كان يكره كلّ من يهدّد طموحه العارم، حتى لو كان يقف معه في المربع نفسه، وشهدنا كيف أبعد أقرب حلفائه، جول وأوغلو وغيرهم، وسيبعد أيّ شخص يهدّد طموحه واستبداده، الذي توسل بالديمقراطية، كما توسل هتلر تاريخياً بديمقراطية حملت للعالم أكبر كارثة إنسانية في الحرب العالمية الثانية.
يكره أردوغان غولن؛ لأنّ خطابه ومنطقه يبقى أقوى من سلطته؛ لذا لا ينام أردوغان ملء جفونه، طالما بقي غولن حيّاً، والأهم أفكاره والقيم التي ينحاز إليها، والتي تنسف مصداقية أردوغان، وكلّ أدوات دعايته، يكره أردوغان غولن كما يكره كلّ مستبد كلّ داعية حقوق رسالي.
نقلا عن حفريات