متابعات إخبارية

دعم بلجيكي جديد.. دفعة قوية للموقف الأوروبي المؤيد لمغربية الصحراء


يشكّل الموقف الذي أعلن عنه نائب رئيس الوزراء ووزير الشؤون الخارجية البلجيكي، ماكسيم بريفو، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، نقطة تحوّل بارزة في مسار العلاقات المغربية البلجيكية، ورسالة سياسية واضحة بأن بروكسل تتجه نحو مرحلة جديدة عنوانها توسيع الشراكة مع الرباط والانخراط في رؤية أكثر واقعية تجاه قضية الصحراء المغربية، فالتصريحات التي أدلى بها الوزير البلجيكي لم تكن مجرّد توضيحات إجرائية، بل جاءت بمثابة إعلان رسمي عن إعادة تموضع في واحد من أكثر الملفات حساسية في المنطقة، بما يفتح الباب أمام تعاون دبلوماسي واقتصادي وأمني أشمل مع المغرب.

ومنذ البداية، حرص بريفو على التأكيد أن تعامل بلجيكا القنصلي مع مواطنيها في المغرب يتم دون أي تمييز جهوي، بما في ذلك الأقاليم الجنوبية. وهذا التأكيد ليس خطوة إدارية فحسب، بل يحمل في جوهره اعترافاً عملياً بوحدة التراب المغربي، خاصة حين أوضح أن البلجيكيين المقيمين في الصحراء مسجلون هناك ويستفيدون من الخدمات القنصلية بالكيفية نفسها المتّبعة في باقي مناطق المملكة. بهذا المعنى، تضع بروكسل حداً لأي لبس أو تأويل قد يستغلّه خصوم الوحدة الترابية للمغرب، وتقرّ بأن الصحراء جزء لا يتجزأ من المجال الترابي الذي تعمل داخله مؤسساتها القنصلية.

لكنّ الأهم هو أن الموقف البلجيكي لم يتوقف عند البعد الإداري أو التقني، بل جاء مرفقاً بمجموعة من الإجراءات ذات طابع اقتصادي واستراتيجي، فقد أعلن بريفو عن دعوة السفير البلجيكي في الرباط لزيارة الصحراء المغربية قريباً، في خطوة تحمل دلالات سياسية واضحة، وتتوجّه نحو إعداد مبادرات اقتصادية تشمل زيارة شركات بلجيكية، وإطلاق منتديات أعمال مشتركة، إضافة إلى الإعداد لمهمة اقتصادية واسعة تضم الوكالات الجهوية البلجيكية الثلاث. وهذه كلها مؤشرات على أن بروكسل تنظر إلى الأقاليم الجنوبية ليس فقط من زاوية سياسية، ولكن باعتبارها فضاءً واعداً للاستثمار والتنمية ووجهة جديدة للشركات البلجيكية.

وفي الوقت نفسه، كشف بريفو عن تحضير زيارة حكومية إلى المغرب خلال الربيع المقبل تُخصص لتفعيل الاتفاق السياسي الموقع في 23 أكتوبر الماضي، وهو اتفاق وصفه الوزير بأنه نقلة نوعية نحو شراكة استراتيجية تقوم على روابط اقتصادية وإنسانية وثقافية متينة. ويبدو أن بلجيكا، وهي تعيد تقييم أولوياتها في جنوب المتوسط، تعتبر أن التعاون مع المغرب يشكل قيمة مضافة لاقتصادها ولأمنها الإقليمي، خصوصاً في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في أوروبا وإفريقيا.

وإذا كانت الخطوات العملية المعلن عنها تُظهر بجلاء حجم الرهانات التي باتت بلجيكا ترى أنها تستوجب توسيع حضورها في المغرب، فإن البعد السياسي للموقف البلجيكي كان أكثر وضوحاً ومباشرة. فقد جدد الوزير دعم بلاده للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، واصفاً إياها بأنها “الأساس الأكثر ملاءمة وجدية ومصداقية وواقعية” للتوصل إلى حل نهائي للنزاع. ويكتسي هذا الموقف أهمية خاصة لأنه يصدر عن مسؤول في حكومة جديدة بأغلبية مختلفة، ما يعني أنه ليس موقفاً ظرفياً بل توجهاً استراتيجياً يتجاوز الحسابات السياسية الداخلية.

هذا الدعم يضع بلجيكا ضمن مجموعة من الدول الأوروبية التي باتت تنظر إلى مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الحل الواقعي الوحيد القادر على إنهاء النزاع وإرساء الاستقرار في المنطقة. فالمبادرة المغربية، بإقرار الوزير، تنطلق من احترام سيادة المملكة ووحدتها الترابية، وهو ما يجعل موقف بروكسل ذا وزن مضاعف، باعتبارها دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وصاحبة تأثير في صياغة توجهات السياسة الأوروبية المشتركة.

كما أن الاتفاق الموقع بين الرباط وبروكسل يفتح آفاقاً واسعة لتعميق التعاون في قضايا الهجرة، ومكافحة الجريمة المنظمة، وغسل الأموال، والتعاون الأمني والقضائي. وهي ملفات باتت حيوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي يدرك أن المغرب شريك لا غنى عنه في إدارة التحديات المتصلة بالأمن والهجرة والتنمية في الجوار الجنوبي.

وفي قراءة أوسع لهذه التطورات، يمكن القول إن الموقف البلجيكي الجديد يعكس إعادة تشكيل لجزء من الرؤية الأوروبية تجاه المغرب، نتيجة إدراك متزايد بأن الرباط تشكل محوراً للاستقرار والتنمية في غرب المتوسط وإفريقيا. كما أن تعاظم الحضور الاقتصادي المغربي على الصعيدين القاري والدولي، خاصة في مجالات البنية التحتية والطاقات المتجددة والأمن الغذائي، يجعل من الشراكة مع المغرب خياراً استراتيجياً بالنسبة لدول كبلجيكا تسعى إلى تنويع شركائها وتعزيز حضورها في الأسواق الصاعدة.

ولعل الإشارة التي قدمها الوزير بخصوص العمل على تنظيم زيارة دولة رفيعة المستوى “بحضور ملكي” خلال الولاية التشريعية الحالية، تكشف أن بروكسل لا تنظر إلى الرباط كشريك عادي، بل كوجهة استراتيجية تحتاج إلى مقاربة جديدة تقوم على الثقة السياسية والتعاون المتعدد الأبعاد. وهذا التوجه ينسجم مع الدينامية المتصاعدة التي تشهدها العلاقات المغربية الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، حيث تسعى العديد من العواصم إلى مراجعة مواقفها بما يتلاءم مع المتغيرات الإقليمية والدولية.

ويظهر أن بلجيكا بصدد الانتقال من حياد يحكمه الحذر إلى انخراط إيجابي يقوم على الاعتراف بالواقع السياسي وعلى إرادة توسيع الشراكة مع المغرب. وهو تحول ستكون له انعكاسات مهمة على مستقبل العلاقات الثنائية، وعلى موقع المغرب في السياسات الأوروبية تجاه جنوب المتوسط.

أما في ما يخص قضية الصحراء، فإن الموقف البلجيكي الأخير يعزز المزيد من المكاسب الدبلوماسية للمغرب، ويؤكد أن المبادرة المغربية باتت تجد صدى متزايداً لدى شركاء أساسيين في أوروبا، بما يسهم في بناء أرضية دولية أكثر صلابة تدعم الحل السياسي الذي تتبناه الرباط.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى