قيادة إيران تختار الحوار مع واشنطن بدل المواجهة لضمان الاستمرار

تركز المؤسسة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية في الوقت الراهن على البقاء أكثر من التركيز على استراتيجية سياسية طويلة الأمد، بعد حرب الـ12 يوما التي أظهرت ثغرات كبيرة في الدفاعات الإيرانية وشعورا شعبيا بأن القيادة التي راهنت لفترة طويلة على وكلائها في المنطقة أكثر من رهانها على قواتها، عاجزة عن حماية أمنها.
وتقف النخبة الدينية في إيران، التي ضعفت بفعل الحرب والجمود الدبلوماسي، عند مفترق طرق.. إما أن تتحدى الضغوط التي تُمارس عليها لوقف النشاط النووي والمخاطرة بمزيد من الهجمات الإسرائيلية والأميركية، أو الرضوخ والمجازفة بحدوث انقسامات في القيادة.
وقالت ثلاثة مصادر إيرانية مطلعة لرويترز إن المؤسسة السياسية الإيرانية ترى الآن أن المفاوضات مع الولايات المتحدة، بهدف إنهاء خلاف مستمر منذ عقود بشأن طموحات طهران النووية، هي السبيل الوحيد لتجنب المزيد من التصعيد والخطر على وجودها.
وفي نهاية المطاف، فإن الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي هو صاحب القول الفصل. وقالت المصادر المطلعة إنه توصل هو وهيكل السلطة الدينية إلى توافق في الآراء على استئناف المفاوضات النووية، معتبرا إياها ضرورية لبقاء الجمهورية الإسلامية.
وأنهى وقف إطلاق نار هش حربا استمرت 12 يوما في يونيو وبدأت بغارات جوية إسرائيلية تلاها قصف أميركي لثلاثة مواقع نووية إيرانية تحت الأرض باستخدام قذائف خارقة للتحصينات.
وأعلن الطرفان الانتصار، لكن الحرب كشفت عن نقاط ضعف عسكرية وهزت صورة الردع التي حافظت عليها إيران التي تعتبر قوة كبرى في الشرق الأوسط وعدو إسرائيل اللدود في المنطقة.
وأدى قصف أهداف نووية وعسكرية إيرانية، حصد أرواح عد من كبار قادة الحرس الثوري وعلماء نوويين، إلى حدوث صدمة في طهران كونه جاء قبل يوم واحد فقط من جولة سادسة كانت مقررة من المحادثات مع واشنطن.
وفي حين اتهمت طهران واشنطن “بخيانة الدبلوماسية”، ألقى بعض المشرعين من غلاة المحافظين وبعض القادة العسكريين باللوم على المسؤولين الذين دافعوا عن الدبلوماسية، معتبرين أن الحوار تبين أنه “فخ استراتيجي” شتت انتباه القوات المسلحة.
ومع ذلك، قال أحد المصادر السياسية المطلعة، الذي طلب كغيره عدم الكشف عن هويته نظرا لحساسية الأمر، إن القيادة تميل الآن نحو المحادثات لأنها “رأت تكلفة المواجهة العسكرية”.
وقال الرئيس مسعود بزشكيان يوم الأحد إن استئناف المحادثات مع الولايات المتحدة “لا يعني أننا ننوي الاستسلام”، مخاطبا بذلك غلاة المحافظين الرافضين لمزيد من الجهد الدبلوماسي بشأن الملف النووي بعد الحرب، مضيفا “لا تريدون إجراء محادثات؟ إذن ماذا تريدون أن تفعلوا؟ هل تريدون العودة إلى الحرب؟”
وانتقد غلاة المحافظين تصريحاته، ومنهم القائد بالحرس الثوري عزيز غضنفري الذي أوضح أن السياسة الخارجية تتطلب التروي وأن التصريحات المتهورة قد تكون لها عواقب وخيمة.
وأكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنهما لن يترددا في ضرب إيران مرة أخرى إذا استأنفت عمليات تخصيب اليورانيوم، التي يمكن استخدامها في تطوير أسلحة نووية.
وفي الأسبوع الماضي، حذر ترامب من أنه إذا استأنفت إيران تخصيب اليورانيوم رغم القصف الذي استهدف مصانعها الرئيسية في يونيو “سنعود (للضرب) مرة أخرى”. وردت طهران متعهدة بالرد بقوة.
ومع ذلك، تخشى طهران من أن تؤدي أي ضربات في المستقبل إلى شل التنسيق السياسي والعسكري، ولذلك شكلت مجلسا للدفاع لضمان استمرارية القيادة حتى لو اضطر خامنئي البالغ من العمر 87 عاما إلى الانتقال إلى مخبأ بعيد لتجنب الاغتيال.
وقال أليكس فاتانكا مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إنه إذا سعت إيران إلى إعادة بناء قدراتها النووية سريعا دون الحصول على ضمانات دبلوماسية أو أمنية، “فإن الضربة الأميركية الإسرائيلية لن تكون ممكنة فحسب، بل ستكون حتمية”.
وأضاف “العودة للمحادثات يمكن أن توفر لطهران متنفسا ثمينا ومجالا للتحسن الاقتصادي ولكن إذا لم تحصل على استجابة سريعة من الولايات المتحدة فإنها تخاطر برد فعل متشدد وزيادة الانقسامات بين النخبة واتهامات جديدة بالخضوع”.
وتصر طهران على حقها في تخصيب اليورانيوم كجزء مما تؤكد أنه برنامج سلمي للطاقة النووية، بينما تطالب إدارة ترامب بوقفه بالكامل، وهي نقطة الخلاف الرئيسية في الجمود الدبلوماسي الراهن.
وتلوح في الأفق عقوبات جديدة من الأمم المتحدة بموجب ما تُسمى آلية “إعادة فرض العقوبات”، التي دفعت بها قوى الترويكا الأوروبية، كتهديد إضافي إذا رفضت طهران العودة إلى المفاوضات أو إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يمكن التحقق منه للحد من نشاطها النووي.
وهددت طهران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، لكن مصادر مطلعة تقول إن هذا أسلوب ضغط، وليس خطة واقعية، لأن الخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي من شأنه أن ينذر بسباق تسليح إيراني لامتلاك قنابل نووية ويؤدي لتدخل أمريكي وإسرائيلي.
وقال دبلوماسي غربي رفيع المستوى إن حكام إيران معرضون للخطر أكثر من أي وقت مضى، وأي تحد هو مقامرة قد تأتي بنتائج عكسية مع تصاعد الاضطرابات الداخلية وضعف قوة الردع وفي ظل تحييد إسرائيل لوكلاء إيران من الفصائل المسلحة في الحروب الدائرة بالشرق الأوسط منذ عام 2023.
ويسود بين الإيرانيين العاديين شعور بالإرهاق والقلق نتيجة الحرب والعزلة الدولية، ويزداد الأمر تعقيدا بسبب إحساس متنام بفشل الحكومة، فالاقتصاد القائم على النفط، والمتعثر أساسا بسبب العقوبات وسوء إدارة الدولة، يواجه ضغوطا متزايدة.
ويعاني البلد الذي يبلغ عدد سكانه 87 مليون نسمة من انقطاع التيار الكهربائي يوميا في أنحاء البلاد، مما يجبر الكثير من الشركات على تقليص حجم عملياتها. وانحسر منسوب المياه في الخزانات إلى مستويات قياسية منخفضة، مما دفع الحكومة إلى التحذير من “حالة طوارئ وطنية للمياه” تلوح في الأفق.
ووقف كثير من الإيرانيين، حتى المعارضين للحكام الشيعة، إلى جانب البلاد خلال حرب يونيو، لكنهم يواجهون الآن فقدان مصادر دخلهم وقمعا متزايدا.
وعلى الرغم من حالة الاستياء الكبيرة، لم تندلع احتجاجات واسعة النطاق. وبدلا من ذلك شددت السلطات الإجراءات الأمنية وكثفت الضغط على النشطاء المؤيدين للديمقراطية وسرّعت وتيرة عمليات الإعدام وقمعت ما تقول إنها شبكات تجسس مرتبطة بإسرائيل، مما أثار المخاوف من اتساع نطاق المراقبة والقمع.
ومع ذلك، عاد المعتدلون المهمشون إلى الظهور في وسائل الإعلام الحكومية بعد سنوات من الإقصاء. ويرى بعض المحللين أن هذه الخطوة تهدف إلى تهدئة القلق الشعبي وإرسال إشارة بإمكانية الإصلاح من الداخل، دون “تغيير النظام” الذي من شأنه أن يغير السياسات الأساسية.
وقال علي رضا (43 عاما)، وهو تاجر أثاث في طهران، إنه يفكر في تقليص حجم تجارته ونقل أسرته خارج العاصمة وسط مخاوف من تعرضها لمزيد من الهجمات الجوية، مضيفا “هذا نتيجة 40 عاما من السياسات الفاشلة”، في إشارة إلى الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 التي أطاحت بالنظام الملكي المدعوم من الغرب.
وتابع “نحن بلد غني بالموارد ومع ذلك يفتقر الناس لإمدادات الماء والكهرباء. عملائي لا يملكون المال. عملي ينهار”.
وكرر ما لا يقل عن 20 شخصا في أنحاء إيران أجريت معهم مقابلات عبر الهاتف ما قاله علي رضا، وهو أنهم يفقدون الثقة في قدرة المؤسسة الحاكمة على الحكم الرشيد على الرغم من أن معظمهم لا يريدون حربا أخرى.