سياسة

كارثة نووية فوق إسبانيا.. قنابل أميركية تسقط وسط الحقول والمقابر


في أوج الحرب الباردة، أطلقت واشنطن مشروعًا عسكريًا استراتيجيًا ضخمًا حمل اسم «قبة الكروم».

المشروع الذي أطلق في أوائل عقد الستينيات، كان يهدف إلى ضمان تمتع القوات الجوية الأمريكية بقدرة دائمة على توجيه ضربة ردعية نووية فورية إلى قلب الاتحاد السوفياتي، لا سيما العاصمة موسكو، في حال اندلاع صراع شامل، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية 

ولتحقيق ذلك، سيرت الولايات المتحدة دوريات من قاذفات القنابل الثقيلة من طراز بي 52، مزوّدة برؤوس حربية نووية، تحلّق على ارتفاعات شاهقة لمسافات شاسعة في مسارات دائرية فوق المحيط الأطلسي وأوروبا الغربية.

ولم تكن رحلة بي 52 الطويلة ممكنة دون إمداد الوقود جواً، فكانت طائرات التزوّد من طراز كي سي 135 ترافقها باستمرار.

وفي صباح 17 يناير/كانون الثاني 1966، حلّقت إحدى هذه القاذفات على ارتفاع يقارب 31000 قدم (أي نحو 9.5 كيلومتر) فوق سواحل ألميريا بجنوب إسبانيا، بمحاذاة طائرة التزوّد كي سي 135، في إطار الدوريات المقررة ضمن “قبة الكروم”.

وعندما اقتربت الطائرتان من بعضهما لإجراء عملية التزوّد بالوقود، وقعت مشكلة تقنية أو سوء في تقدير مسافة الاقتراب، فسجلت سرعة نسبية زائدة بينهما نتج عنها تصادم قوي، كما أوضح الجنرال ديلمار ويلسون، مسؤول التحقيق الأولي في الجيش الأمريكي.

بين الطماطم والمقبرة

وأدى الحادث إلى تحطم طائرة كي سي 135 واشتعال خزان وقودها فورًا، ما أسفر عن مصرع جميع أفراد الطاقم الأربعة على متنها، فيما تضررت قاذفة بي 52 ولقي اثنان من أفراد طاقم القاذفة حتفهما في موقع الحادث، فيما جرى إنقاذ البقية بالقفز بمظلّاتهم.

وتمكن واحد منهم من فتح مظلّته خارج نطاق السيطرة لكنه لقي مصرعه عند الارتطام بالأرض، بينما نجا أربعة آخرون من الطيارين وسقطوا في أماكن متفرقة، إذ سقط بعضهم فوق البحر المتوسط، فيما استُخدمت قوارب صيد محلية لإنقاذهم خلال ساعة من وقوع الحادث.

لكن أكثر ما أثار الرعب -آنذاك- كان سقوط أربع رؤوس حربية نووية من طراز “مارك 28” حرارية (thermonuclear bombs)، كل منها يزن نحو 3.6 طن، ويحوي أنوية من البلوتونيوم المغلف بطبقات من المتفجرات التقليدية.

ورغم أن هذه الأنواع من القنابل صممت بنظام أمان ثلاثي لمنع حدوث انفجار نووي انشطاري غير متعمد، فإن المتفجرات التي تحيط بلب البلوتونيوم كانت قابلة للانفجار ميكانيكيًا، ما تسبب في انفجارين عنيفين أرضيين عند سقوط قنبلتين على التوالي.

الانفجار الأول وقع في حقل طماطم يخص المزارع بيدرو ألاركون وأحفاده. وروى ألاركون لاحقًا لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عام 1968 كيف قضى لحظات من الرعب عندما شعر بقوة الانفجار، وارتطمت شظايا قنبلة بحقل الطماطم، فهزّت الأرض وتطايرت الأتراب حوله وأرغمت الأطفال على البكاء والصراخ.

الانفجار الثاني حصل عند سقوط القنبلة الأخرى قرب مقبرة ريفية، فأنشأ حفرة عميقة ضخمة ورماها بغبار البلوتونيوم شديد الإشعاع.

وامتدّت رقعة التلوّث الإشعاعي إلى مئات الفدادين المحيطة بالموقع، حيث تساقطت شظايا الطائرة المشتعلة مع غبار البلوتونيوم السام على القرية الصغيرة. ولحماية السكان والبحث عن القنابل المفقودة، سارعت السلطات الأمريكية بتشكيل غرفة عمليات طارئة.

واستخدم فريق البحث خرائط تفصيلية وأجهزة قياس النشاط الإشعاعي من طراز “موازين غايغر”، وانتشرت فرق من قوات الشرطة الإسبانية (الحرس المدني) على طول الشاطئ ومجاري الأنهار بحثًا عن أي بقايا نووية.

استعادة ثلاث قنابل

وخلال الأيام الأولى استعيدت ثلاث قنابل، الأولى هبطت على مضيق نهر قرب البلدة.. وأُخرجت سليمة ونُقلت إلى براميل مغلقة، فيما انفجرت قنبلتان لدى ارتطامهما بالأرض، فألحقتا أضرارًا مادية وتلوّثتا التربة. وبقيت قنبلة واحدة مفقودة.

وجرى تعبئة مئات الأطنان من التربة الملوثة في براميل ثم أُرسلت إلى منشأة تخزين نووي في ولاية كارولينا الجنوبية.

ومع تعذر العثور على القنبلة الرابعة في البر، خُصّص أسطولٌ ضم أكثر من 30 سفينة حربية ومدنية متخصصة في مسح قاع البحر، بما في ذلك كاسحات ألغام وغواصات وأجهزة تصوير صوتية للتعرّف إلى الأجسام الغارقة.

وبعد عدة أسابيع من البحث المضني، نجحت سفينة الغوص العميق “ألفين” (ALVIN) في الوصول إلى مكان القنبلة في خندق مائي، واستعادت الرأس الحربي أخيرًا بعد نحو أربعة أشهر على الحادث.

في اليوم التالي، وبخطوة نادرة في تاريخ الجيش الأمريكي، عُرِضَت القنبلة أمام وفد صحفي دولي برفقة السفير الأمريكي آنذاك، أنجير بيدل دوق، الذي سبح أمام الصحفيين على الشاطئ لطمأنة الجمهور بأن مياه المنطقة آمنة.

ورغم جهود التنظيف والاتفاقية الموقعة عام 2015 بين واشنطن ومدريد لمتابعة تحييد التلوّث وإجراء فحوصات صحية دورية لسكان بالوماريس، لا تزال نحو 40 هكتارًا من الأراضي المحيطة موقع الانفجار محاطة بسياج أمني. وقد كشفت دراسات طبية أن بعض أهالي البلدة عانوا من اضطرابات تنفسية وبُقع جلدية غامضة على مدى العقود التالية.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى