وصية الخميني هي واحدة من أكبر مشكلات النظام الإيراني، والتزامه بها كلّف الشعب الإيراني الكثير من الدماء والدمار، ذلك أن الميّت يوصي حسب الظروف التي يعيشها في نهاية حياته والتوازنات القائمة آنذاك، والتاريخ دائم التقلب والتطور سلباً وإيجاباً، وكانت نتيجة الالتزام بوصية الخميني هلاكاً وتخريباً في المنطقة. جاء في وصية الخميني ترديد لأوهام الأصولية السُّنية التي أسّسها وطوّرها تنظيم الإخوان المسلمين، من حديثه عن «الحكومة الإسلامية» و«المؤامرة» على الإسلام، واعتقاده أنه هو و«ثورته» مَن يمثّل الإسلام، وأن «القرآن دستورٌ»، وغيرها الكثير، وبالتالي فالواجب على من بعده أن يحمل راية الإسلام كما يفهمها الخميني، والخميني فهم أن الإسلام ثورة وحكومة وسياسة، حيث يقول: «و(الإسلام) مدرسة على خلاف المدارس -غير التوحيدية- حيث يتدخل في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية ويشرف عليها، ولم يهمل أي نقطة -ولو كانت صغيرة جداً- مما له دخل في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمه المادي والمعنوي». هذا التفسير السياسي للإسلام هو أيديولوجيا الإسلام السياسي واستخدام المقدس لخدمة المدنّس، واستغلال الإسلام لخدمة أهداف سياسية بطريقة لم يسبق لها مثيلٌ، مع استحضار الجهد الكبير الذي بذله الخميني وشيوخه وتلامذته من أجل استنطاق المذهب الشيعي لينطق بمفاهيم سُنّية في الحكم والسياسة، وهو ما سمّاه المفكر عبد الله العروي «تسنين التشيع». يخضع النظام الإيراني اليوم لضغوطٍ هائلة وعقوباتٍ أميركية صارمة وهو نظام منبوذٌ في العالم، وهو النظام الوحيد الذي يعلن دعمه المباشر لكل عمليات الإرهاب والفوضى في المنطقة والعالم، وهو مدعومٌ من تركيا وقطر، وعلاقته مع روسيا هي التقاء مصالح في سوريا، فهو نظام يسير على مسطرة الأيديولوجيا ويلتزم بوصية ميتٍ منذ ثلاثة عقودٍ. وعلى الرغم من براغماتية النظام التي تجلّت في مواقف عديدة في الماضي فإنه لم يواجه أبداً مثل هذا الحزم والعقوبات التي تتصاعد. الشعب الإيراني شعبٌ حيٌّ، ذو ثقافة راسخة وأدبٍ راقٍ، وبالنظر إلى التاريخ المعاصر في المنطقة فهو شعبٌ تحرّك كثيراً لحماية نفسه من جور أنظمته المتعاقبة، وهو يعد أكثر شعوب المنطقة استخداماً لمصلحة «الثورة» في وصف تحركاته ضد الأنظمة السياسية، ولا ينافسه في هذا إلا الشعب المصري، مع الاعتراف بمساحة الاختلاف الطبيعية بين الشعبين، ولكن باعتبار أن مفهوم «الثورة» مفهوم إيجابي لدى الطرفين. هاشمي رفسنجاني شريك مؤسس مع الخميني وخامنئي في الانقلاب على الشاه وحكم إيران بالحديد والنار، وبالحق الإلهي الخالص الذي زعموه لأنفسهم ولتفسيرهم الخاص للإسلام، ولكنه نتيجة لخلافات على السلطة اتخذ منذ سنواتٍ طويلة قيادة تيارٍ بات يُعرف بالتيار الإصلاحي في إيران، ورغم الشكوك المتصاعدة في أن وفاته لم تكن طبيعية فإن المهم هنا حديث نُشر مؤخراً لابنته فائزة رفسنجاني. حديث فائزة رفسنجاني حديث مثيرٌ، وقد صرحت فيه بتصريحاتٍ أكثر قوة من تصريحات سابقة لها، فهي سيراً على الخط الذي انتهى إليه والدها قالت في حوار مع إحدى القنوات في الإنترنت الخميس الماضي: «أنا لست ضد الحكومات الدينية، ونحن مثل الجميع، كنا نعتقد أن الجمهورية الإسلامية سوف تنجح، لكن الحكومة الإسلامية الإيرانية لم تفشل فحسب، بل دمرت الإسلام أيضاً» وهو كلام مهمٌّ، ذلك أن هذه هي إحدى المعضلات التي خلقها نموذج الإسلام السياسي المصنوع حديثاً، والذي تتبناه الأصولية الإسلامية السنية والشيعية. جادل كثيرون بأن هذا النموذج الأصولي الذي يخلط الدين بالسياسة هو تشويه للدين وتخريب للسياسة على حدٍّ سواء، وما تقوله رفسنجاني هو مثالٌ واضحٌ على هذا في السياق الإيراني، هي متصالحة مع فكرة الحكومة الدينية لا المدنية، ولكنها تعترف بأن الحكومة الإسلامية الإيرانية فشلت، وتضيف بتأكيد: «بل دمّرت الإسلام» وهذا هو مصير هذا التيار الأصولي في كل نماذجه، من السودان إلى طالبان وإيران. على طريقة الخميني، قتل المرشد خامنئي أحبابه ورفاق دربه، وأفنى عبر عقودٍ كبار مواليه وأخلص مناصريه، وهو اليوم هرمٌ مريضٌ، يتمنى الموت واقفاً قبل الانكسار الكبير لحلمه ومشروعه، والأيديولوجيا التي اختلقوها هو وسلفه وحكموا بها الشعب الإيراني بالحديد والنار ونشروا بها الدمار والخراب في الدول التي نجحوا في نشرها فيها مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. تحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أكثر من مرة بأن السعودية ستسعى بكل الوسائل لمنع التدخلات الإيرانية في الدول العربية، وأن إيران إذا لم تتخلَّ عن مشروعها التوسعي الطائفي فإنها ستُجبَر على الرجوع إلى الداخل الإيراني والاهتمام بشعبها وشؤونها الداخلية، وهو ما ثبت اليوم لكل المتابعين أنه لم يكن حديثاً عابراً، بل رؤية واستراتيجية، وقرارات ومواقف، قد بدأت في فترة قصيرة من عمر الزمن تؤتي أكلها وتظهر نتائجها، والأمثلة كثيرة، من آخرها المصالحة بين إثيوبيا وإريتريا في القرن الأفريقي والتي تمّت بجهودٍ سعودية إماراتية مكثفة، وسيتم التوقيع عليها في السعودية. تخبُّط إيران بدأت تظهر بوادره في العراق الذي باتت تخسر فيه كثيراً من نفوذها وقوتها، ومن العبث ضربها بالصواريخ مناطق المعارضين الأكراد في العراق بالتزامن مع إعداماتٍ داخلية لبعض الرموز الكردية، وهو ما جعل واشنطن تحذّر النظام الإيراني من مغبة مثل هذه السياسات التي تذكّر بمواقف إيران بعد 2003 ضد القوات الأميركية في العراق. كذلك بدأت تتكشف للعالم أدوار إيران التخريبية، وأصدرت محكمة أميركية غراماتٍ على النظام الإيراني لدوره المعروف في تفجيرات الخبر السعودية 1996، والتي قُتل فيها عدد من الأميركيين، وهو ما سبق أن أثبتته السعودية بكل الأدلة والبراهين، وأمثال هذه الأدوار التخريبية الإيرانية يمكن أن تكون وسيلة مهمة لفضح جرائم النظام الإيراني في جميع المحاكم في شتى البلدان، وهو مسارٌ لو تمّ تحريكه في أوروبا وأميركا الجنوبية وأفريقيا سيكون عنصراً مهماً لإحراج بعض الدول التي لم تزل تدافع عن إيران أو عن الاتفاق النووي الأسوأ من السيئ؛ والذي قاده الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. أخيراً، فالنماذج السيئة لأنظمة الحكم التي قدمتها وتقدمها جماعات وتيارات الإسلام السياسي تنتهي بالفشل وتدمير الإسلام وإفناء البشر، وإيران هي أبشع النماذج. نقلا عن “الشرق الأوسط”