كتاب سيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) كان قد صدر في طبعته الأولى عام 1949، وكان مؤلفه في بعثة مفتوحة في أمريكا، لدراسة اللغة الإنجليزية، وللتعرف إلى مناهج التعليم والتربية هناك. وفي ذلك العام كان مسعود النَّدَوي في زيارة إلى العراق، فأهداه شبيبة الإخوان المسلمين العراقيين الكتاب ليقرأه. ومما قاله عنه بعد أن قرأه: «الكتاب في مجموعه جيد، والمؤلف مسلم متمكن فكرياً وثقافياً، والأهم من هذا وذاك أنه يفرّق بين الإسلام والمسلمين، ويعلم بأن يرى (!) العدل الاجتماعي، وقد تحقق في المستقبل على أسس الإسلام الصحيح، ولا يدري المسكين أن هناك في الهند وباكستان مَن انشغلوا وانهمكوا وغرقوا في وضع الأفكار الرامية إلى التطبيق العملي لهذا الحلم. إن اطلاعه على هذا الأمر يدخل في صميم أعمالنا»! هذا هو رأي أول مترجم لبعض أعمال المودودي من الأوردية إلى العربية والتي كان من بينها كتاب (الجهاد في سبيل الله) في الكتاب الذي عدّه الإخوان المسلمون نمطاً عظيماً غير مسبوق في التأليف والاتجاه والتفكير الإسلامي المعاصر. يشير رأيه إلى أمر يجهله سيد قطب ويجهله الإخوان المسلمون في المشرق العربي، وهو أن ذلك النمط في التأليف والاتجاه والتفكير موجود وله تجربة ناجزة في التنظير والعمل لإقامة دولة ومجتمع إسلاميين كاملين تامّين. فالذين انشغلوا وانهمكوا يعني بهم المودودي وأتباعه، فهم الذين انشغلوا وانهمكوا في هذا الأمر قبل تأسيس المودودي حركته الإسلامية الشاملة، الجماعة الإسلامية (1941)، حين بدأ التأليف باتجاهٍ وتفكيرٍ إسلاميين أصوليين جديدين ابتداءً من أواخر عشرينيات القرن الماضي، وبعد تأسيسها. إن أهم ميزة وجدها مسعود النَّدَوي في الكتاب أن مؤلفه يفرّق -كما قال- بين الإسلام والمسلمين. ويقصد بهذا أنه ميّز بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين. أي أنه ادّعى -كما في كتابه- أن تاريخ المسلمين غير متطابق مع عقيدة الإسلام وشريعته، ولا يمثلها، بل هو منحرف عنها ومضاد لها. واعتبر هذا ميزة في الكتاب لأن تلك الفكرة كان يعمل بها ويطبقها المصلح الديني الهندي شاه ولي الدين الدهلوي (1703 – 1762) في العديد من كتبه. ولأن المودودي وأتباعه -الذي هو أحدهم- يصدرون عن ذلك القول في نظرتهم إلى الإسلام وتاريخه. ولقد قال سيد قطب بتلك الفكرة لأسباب مختلفة تماماً عن الأسباب التي دفعت بوليِّ الدين الدهلوي إلى القول بها، لكن ليس هناك مجال لشرح الأسباب، ولا لمناقشتها. وسأكتفي بالإشارة إلى أن تلك الفكرة الشائعة عند الإسلاميين بمختلف تياراتهم والتي نشأت لمحفزات دفاعية وحجاجية، هي أحد الأثداء التي تغذّت منها الأصولية الإسلامية ونمت وترعرعت، وصلب عضلها ومتن عصبها وضخم جسمها، وأنها فكرة غير واقعية وغير منهجية وغير تاريخية. وتقوم على نفي قانون التطور وسُنّة التاريخ. وكان قبلها قد قال مسعود النَّدَوي عن الكتاب إنه في مجموعه جيد، لكنه لم يُبِنْ لماذا هو جيد. وقد أبان لماذا هو جيد بعده أبو الحسن النَّدَوي حين قرأ الكتاب. ففي زيارته إلى الحجاز عام 1950 -كما يروي- قدم له الأديب السعودي أحمد عبدالغفور عطار، الكتاب، فعكف على مطالعته. راق له لأنه «فضّل أسلوب الهجوم، أو مواجهة الفكرة الغريبة -بمعناها الواسع- وجهاً لوجه». وهذا ما كان -كما أخبرنا- يفتقده في المكتبة العربية الحديثة، ولم يجده في الكتّاب العرب. وأسلوب الهجوم على الحضارة الغربية وعلى قيمها ومفاهيمها المعتمد على استعلاء ديني إسلامي كان سيد قطب قد استمده في كتابه من الهندي مولانا محمد علي، ومن النمساوي (الباكستاني لاحقاً) محمد أسد. وكما رأينا في الرأي الذي أبداه مسعود النَّدَوي في كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، أنه تحدث عن مؤلفه سيد قطب بوصفه مسكيناً، وذلك من منطلق الحدب والعطف عليه، لأنه -كما قدّر- في أمسّ الحاجة إلى أن يتزود وينتفع من كتب المودودي، لكي يسير في كتابته الإسلامية في طريق ممهد ومعبد. وهذا ما تحقق مع نشر بعض كتبه المترجمة إلى العربية في القاهرة من عام 1950 إلى عام 1953، عن طريق (لجنة الشباب المسلم) ومع ترجمة كتب أخرى له أصدرتها دور نشر إسلامية في دمشق، وفي بيروت في منتصف الخمسينيات وأول الستينيات. تزوُّد وانتفاع سيد قطب من أطروحة المودودي الإسلامية الأصولية مر بمرحلتين: الأولى، كان التزود والانتفاع فيها جزئياً وأتى بشكل مغطى ومحجوب، كما في فصل (الإسلام العالم) في كتابه (السلام العالمي والإسلام) الصادر في 1951. والأخرى، كان التزود والانتفاع فيها كلياً إلى حد الاستغراق التام والذوبان الكامل في أطروحة المودودي مع التنويع عليها في التشقيق التنظيري. وهذه المرحلة ابتدأت في عام 1958. وهي التي في ظلها أكمل كتابة كتابه (في ظلال القرآن) ونقّح الأجزاء التي كان قد أصدرها قبل ذلك التاريخ، ونقّح أيضاً كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) التنقيح الأخير ليتواءم مع مرحلته المودودية التي ألّف فيها كتبه التي صدرت ما بين أول الستينيات وأول منتصفها. وفي هذه المرحلة رفع الغطاء ونزع الحجاب عن مرجعيته المودودية. وفي هاتين المرحلتين كان قد تزود وانتفع من كتابات أبي الحسن النَّدَوي، المنظّر الثاني للأصولية الإسلامية الحديثة بعد المودودي. وهكذا تم لسيد قطب ما كان يرغبه ويريده له مسعود النَّدَوي حتى لا يظل مسكيناً في توجهه الإسلامي! في عرضنا لصلة سيد قطب الفكرية بأطروحة المودودي وشرّحنا لطبيعتها تبيان لخطل ما ذهبت إليه الدكتورة حياة اليعقوبي، من أن سيد قطب قد تتلمذ على المودودي علمياً وسياسياً. فسيد قطب قد تتلمذ على المودودي علمياً وسياسياً. فسيد قطب تتلمذ في بداية حياته الأدبية والثقافية على عباس محمود العقاد. وقادته هذه التلمذة في مرحلته الأدبية إلى أن يكون متعصباً له بسطحية وشطط وسفه. وكان بعض أبناء جيله من الأدباء والنقاد في معاركهم الأدبية معه يلمزونه – مع استواء شخصيته الأدبية والنقدية والفنية – بتسميته «تلميذ العقاد»، ليصغّروا من حجمه الأدبي والنقدي. وبسبب ذلك التعصب عندما أثخن مارون عبود شعر العقاد بالنقد في سلسلة مقالات، سخر منه سخرية مسيحية لاذعة، فسماه مار توما العقاد. إن سيد قطب حينما تعرف إلى كتب المودودي لم يكن في طور التتلمذ والتعلم، وإنما تأثر بآرائه بقوة إلى حد استنساخها. وكان مهيأ إلى أن يندفع في اتجاه إسلامي متطرف. وفي سعيه للمضي في هذا الاتجاه وجد ضالته في أفكار المودودي. معضلة سيد قطب سواء في مرحلته الأدبية أو في مرحلته الإسلامية أنه كان غير قادر على الابتكار والاجتراح، لهذا كان في الأولى عقادياً وفي الأخيرة مودودياً. هذا بالنسبة إلى فعل «تتلمذ». أما «علمياً» فأود أن أُعلم الدكتورة حياة أنه لا وجود لهذه الكلمة في قاموس المودودي. ولا وجود لكلمات أخرى فيه كالمنهجية والموضوعية. فهو لا يريد أن يكون علمياً ومنهجياً وموضوعياً في إسلامياته. لا يريد ذلك لأنه صاحب مشروع سياسي عقائدي أممي يهدف إلى تغيير ثوري شامل في الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية. وأما سياسياً، فهناك بون شاسع بين نهج المودودي ونهج سيد قطب في العمل السياسي. تقول الدكتورة حياة -وهي تعرض لما جاء في رسالة الجهاد لحسن البنا: «يخوض الكاتب في معنى سبيل الله، ويحصرها في كونها إرشاد الخلق إلى الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا. واستحضر لتفسيرها جملة من الوقائع عن تاريخ الصحابة في الجهاد. ويستدل بها على عزوفهم عن المطامع والأهواء. وهي فكرة تحمل محاولة لدحض فكرة أن الجهاد هو الاستبداد والحصول على الأرزاق. وهي فكرة دافع عنها المستشرقون». ثم تقارن بين حسن البنا والمودودي، فتقول: «وقد خاض فيها -تقصد الفكرة- بأكثر توسع وانفعالية. وقد نفسر هذا الهدوء في خطاب حسن البنا -مقارنةً بالمودودي- بزعامته حركة في ظرف سياسي يجعل الجهاد يتوجه إلى الخارج لا إلى الداخل»! وفي خاتمة بحثها قالت: إن «سيد قطب الذي عانى من السجن والتعذيب في عهد عبدالناصر كان الجهاد لإسقاط النظام ذا أولوية مطلقة تسبق كل الأولويات عنده. والمودودي هو المرجع والمدرسة الأولى التي تسلم منها سيد قطب مفهومه للحاكمية التي من أجلها استمات في الدفاع عن الجهاد قتالاً. إلا أن الانفعالية التي طبعت خطاب الرجلين في مسألة الجهاد سنراها تخبو مع حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، فإذا كنا رأيناه يدافع عن الجهاد في ضيقه واتساعه، فإنه من أجل الإقناع والترويج الدعوي حتى يوجهه ضد المستعمر الإنجليزي وقبل كل شيء، فوحده الغرب كافر يستحق الجهاد ضده، ووحدها فكرة أخلاقيات الجهاد في الإسلام كان يراها تسويقاً جيداً له». وتمضي في مقارنتها إلى أن تقول: «حسن البنا مثلاً بدأ أكثر حرفية وهو يربط الآيات، ويتدخل في أكثر من موضوع ليضفي شرعية عقلية، ويعتمد منهجاً متماسكاً في التعامل مع الآيات وتوظيف علاقاتها الداخلية. وهو ما بدأ باهتمام المودودي، وربما لأن الجانب الدعوي كان رهاناً يحتاج إلى رؤية أكثر إقناعاً». وللحديث بقية. نقلا عن “الشرق الأوسط”