هل قضى كورونا على ابتزاز أردوغان لأوروبا بورقة اللاجئين؟
“يجب ألا نسمح أن يتم ابتزازنا من قبل رجل يقول: إذا انتقدتموني أو لم ترسلوا لي الأموال، عندها سأرسل الناس عبر البحر! هذا مثيرٌ للشفقة”..”أردوغان يستخدم لاجئي الحرب ويستخدمنا كوديعة سياسية لسياساته المجنونة”.
بهذه النبرة الحادة عبرت نائبة رئيس البرلمان الألماني، كلاوديا روت، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لصحيفة “دي فيلت” الألمانية عن نفاد الصبر الأوروبي تجاه ابتزازات الرئيس التركي، بقضية اللاجئين. أردوغان الذي لا يكاد يتعثر اقتصادياً، أو يتلقى صفعات عسكرية في سوريا، أو يرغب بمداعبة أحلام شعبه بسفر بدون تأشيرة إلى أوروبا، إلا ويسارع بالتلويح بورقة اللاجئين في وجه بروكسل، مستغلاً الضعف السياسي لأوروبا، وضعف قوانينها تجاه اللجوء.
صفعة روسية
في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي شنّ أردوغان عملية عسكرية جديدة ضد قوات سوريا الديمقراطية، بهدف خلق منطقة آمنة بين الأكراد والحدود التركية، وعُرفت باسم عملية “نبع السلام”. انتهت العملية بتوقيع اتفاق سوتشي، تبع ذلك موجة جديدة من الصدام المسلح بين تركيا والجماعات السورية الموالية لها من جهة، والأسد وحلفائه وروسيا من جهة أخرى للسيطرة على محافظة إدلب، المعقل الرئيسي للمعارضة السورية بمختلف أطيافها، وإحدى مناطق النفوذ التركي.
شهدت معركة إدلب التي بدأت مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2019، صدامات مباشرة بين الجيش السوري والقوات التركية، نتج عنها مقتل عشرات الجنود الأتراك، واشتدت المواجهات بين الطرفين، مسببة موجة كبيرة من نزوح السكان نحو تركيا ومناطق سورية أخرى.
وجد أردوغان نفسه وحيداً في مواجهة سوريا وروسيا وحلفائهما، بعد أن تسببت سياسته في معاداة الولايات المتحدة، وشركائه في حلف الناتو، الذين باتوا يشكون في ولاء تركيا للحلف، بعد إبرامه صفقة S400 مع روسيا، رغم اعتراض شركائه في الحلف، مما عرضه لعقوبات أمريكية، طالت التعاون العسكري بين البلدين.
توالت خسائر أردوغان العسكرية في عملية إدلب، في ظل تقدم قوات الجيش السوري على حساب الجماعات الموالية لتركيا، وشهد يوم 28 شباط (فبراير) مقتل 33 جندياً تركياً في غارة جوية للجيش السوري، وتتالت الخسائر، ليهرع على إثرها أردوغان إلى الناتو لينقذه من الورطة التي أوقع نفسه فيها.
لم يجد أردوغان بداً من اللجوء إلى عادته القديمة المتمثلة بالمتاجرة بالمدنيين السوريين، فعاد أردوغان ليبتز الأوروبيين باللاجئين، ناقضاً الاتفاق الذي وقعه الطرفان في التام 2016 بهذا الشأن، ومتجاهلاً خطر كورونا على اللاجئين.
المتاجرة باللاجئين
ترافقت مع عملية “غصن الزيتون” ثم معارك إدلب موجة كبيرة نسبياً من نزوح اللاجئين إلى أوروبا، واشتدت وتيرتها بعد إعلان الرئيس التركي فتح الحدود أمامهم إلى أوروبا بشكل رسمي في نهاية شباط (فبراير)، وسبق ذلك تشجيع الأتراك للاجئين بالتوجه نحو الحدود الأوروبية-التركية مع اليونان وبلغاريا.
يرى فادي حاكورة، خبير الشؤون التركية في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن، أن تركيا “تبتز” أوروبا وتهدف من خلال فتح الحدود إلى “جر أوروبا إلى مستنقع الحرب السورية”، ويضيف في حديث لـDW عربية: “تركيا تريد، من جهة، أن تحصل على تأييد أوروبي لعملياتها العسكرية في شمال سوريا وخصوصاً في إدلب، كما أنها تريد، من جهة أخرى، الحصول على مزيدٍ من الأموال من أوروبا”.
علاوة على ذلك يستخدم أردوغان ورقة اللاجئين للضغط على الأوروبيين للتسريع باستئناف المحادثات بشأن حرية التنقل للمواطنين الأتراك إلى أوروبا دون تأشيرة مسبقةٍ، واستئناف مباحثات الوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي.
تكشف تصريحات أردوغان بجلاءٍ عن ابتزاز واضح للأوروبيين، ففي تصريح له اتهم “الغرب” بالنفاق فيما يتعلق بأزمة اللاجئين، وقال: “حيث سارع – الغرب – لمد يد العون إلى اليونان، بينما يتجنب تقاسم الأعباء مع تركيا”، مضيفاً: “الغرب مع الأسف منافق جداً، فقد وعدوا اليونان على الفور بتقديم 700 مليون يورو”!
بهذا المنطق يتجه أردوغان لتحميل أوروبا تبعات سياسته غير المتزنة في سوريا، والتي كانت سبباً رئيسياً في معاناة الشعب السوري، عبر دعمه للجماعات والفصائل الإرهابية، وتحويل الحراك الثوري السوري إلى فصائل مسلحة تابعة له، لتنفيذ مشروعاته التوسعية في العالم العربي.
تعريض اللاجئين لخطر الإصابة
قامت أنقرة بفتح الحدود مع اليونان، وبدأت في نقل اللاجئين إلى الحدود، عملية النقل لم تكن عفوية كما يدعي أردوغان، بل منظمةٌ من قبل حكومة العدالة والتنمية لابتزاز أوروبا، دون أدنى مراعاة لخطورة التكدس على الحدود على إصابة اللاجئين بفيروس كورونا، أو تعرضهم للإصابات جراء المواجهات مع الشرطة اليونانية.
فريق مراسلي موقع “مهاجر نيوز” المختص بشؤون اللاجئين، رصد من مناطق الحدود الدور التركي في استغلال اللاجئين، وأجرى أحاديث عديدة معهم، ومن بينهم لاجئة قالت للفريق: “السبت الماضي، رُكِّبنا في باصاتٍ تركيةٍ من أدرنة حتى نهر إيفروس (مريج). قالوا لنا بإمكانكم العبور من هنا إلى الضفة المقابلة”.
كان مصير اللاجئة هو التعرض لقنابل الغاز من الشرطة اليونانية، لتعود إلى أراضي تركيا بعد رحلة من المعاناة والإهانة، بسبب تلاعب أردوغان بهم. السلطات التركية حولت محطة وقود قريبة من الحدود إلى مركز تجمع للاجئين المشحونين على باصات أعدتها، استعداداً للدفع بهم إلى الحدود، دون مراعاةٍ لخطورة انتشار فيروس كورونا بينهم.
رصد فريق “مهاجر نيوز” المأساة: في محطة الوقود التي تحولت إلى تجمع للمهاجرين، تصل حافلات بيضاء كبيرة تتسع لحوالي 60 شخصاً، تارةً ينزل منها مهاجرون، وتارةً تأخذ تلك الحافلات المهاجرين باتجاه الحدود اليونانية.
تنظم الجندرمة التركية العملية، عبر تحديد نقاط العبور عبر نهر إيفروس، بتنظيم عمليات ركوب قوارب العبور، وفق شهادة سائق تركي يقوم بنقل المهاجرين الأفغان من مخيم في مدينة أرضوم، لفريق “مهاجر نيوز”.
لم تكتف تركيا باستغلال اللاجئين للضغط على أوروبا، بل استغلت الأحداث للتخلص منهم، فوقع اللاجئون بين نارين، وذلك عقب تصريحات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، خلال زيارة المعبر والتي ذكر فيها أنّ بلاده تعمل على نشر ألف عنصر من شرطة المهام الخاصة على ضفاف النهر، لمنع عودة طالبي اللجوء من قبل الجانب اليوناني.
كورونا يغير المعادلة
تزامنت الأحداث السابقة مع تفشي وباء كورونا في إيطاليا، وتهديده لدول الاتحاد الأوروبي كافةً، مما دفع المسؤولين إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة تتعلق بالسفر والتنقل، خصوصاً عبر الحدود الدولية. أثر ذلك على مسألة اللاجئين على عدة مستويات في أوروبا، يتعلق بعضها بالتغطية الإعلامية، والموقف الشعبي، والموقف الرسمي، وفرص العمل للاجئين.
فمع تزايد تفشي كورونا تراجعت التغطية الأوروبية عن أزمة اللاجئين، لتحل محلها أخبار هذه الجائحة، وتستحوذ على منصاتها الإعلامية، مما أثر سلباً على متاجرة أردوغان بالقضية، فبات وحيداً يكرر حديثه المعهود عن خيانة الأوروبيين لبلاده.
على المستوى الشعبي أدى انشغال الأوروبيين بخطر كورونا إلى تراجع دور المنظمات الإنسانية في الضغط على الحكومات للتدخل لحل أزمة اللاجئين، ولم يعد المواطن الأوروبي مستعداً لتبنّي قضايا أخرى غير وباء كورونا، الذي يهدد حياته، مما حرم أردوغان من استغلال هذا الجانب في الضغط على حكومات أوروبا.
رسمياً بدأت الدول الأوروبية في إغلاق حدودها بين بعضها البعض، في محاولةٍ لتقليل انتقال العدوى. أغلقت جمهورية التشيك وقبرص والدنمارك ولاتفيا وبولندا وسلوفاكيا وليتوانيا معابرها الحدودية بشكل كامل للحد من انتشار الفيروس، فيما أغلقت فرنسا والنمسا وهنغاريا وألمانيا وإيطاليا حدودها بشكل جزئي مع تشديد أمني مكثف.
بالإضافة إلى ذلك علقت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، برامج إعادة توطين اللاجئين خاصة فيما يتعلق بسفر اللاجئين الذين ينتظرون موافقات أو تأشيرات للسفر، وذلك بهدف احتواء انتشار فيروس كورونا.
أثرت الإجراءات الاحترازية لمواجهة وباء كورونا في أوروبا على وظائف اللاجئين الذين يعملون بشكل قانوني أو غير قانوني، وهو ما بات يهدد حياة أغلبهم، ويُضعف عزيمة اللاجئين في تركيا لترك المخيمات والتوجه نحو أوروبا، في ظل انعدام الوظائف، والخطر من الإصابة بالوباء لمن يعيشون داخل مخيمات اللجوء، مما يحطم آمال أردوغان بحشد اللاجئين لابتزاز أوروبا.
شملت الإجراءات الرسمية في أوروبا تعليق استقبال اللاجئين، وتوجيه خطاباتٍ مباشرةٍ إليهم لتحذيرهم من مغبة الانجرار وراء الأوهام التي يروجها أردوغان، ومن ذلك تصريحات وزير الداخلية الألماني هورست زي هوفر، التي جاء فيها: “نحتاج إلى النظام على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، سوف ندعم اليونان بكل ما أوتينا من قوةٍ في هذا الصدد، إنّ حدود أوروبا ليست مفتوحة أمام اللاجئين من تركيا، وينطبق هذا على حدودنا أيضاً”.
وكان بيان صادر عن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي طالب المهاجرين واللاجئين الذين يحاولون مغادرة تركيا باتجاه أوروبا عدم التوجه نحو الحدود مع اليونان، لأنها لن تُفتح.
خسارة أردوغان
في 9 آذار (مارس) الجاري، وصل أردوغان إلى بروكسل لعقد مباحثات مع المسؤولين الأوروبيين حول أزمة اللاجئين على الحدود اليونانية، أو بمعنى صريح الاتفاق على الثمن الذي سيتقاضاه لإغلاق الحدود، والذي تم الاتفاق عليه لاحقاً خلال القمة الرباعية بين زعماء تركيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا عبر تقنية الفيديو كونفرانس.
تمخض عن القمة حصول تركيا على بعض مطالبها، من بينها تعهد أوروبي بتوسيع الاتحاد الجمركي مع تركيا، وتقديم مساعداتٍ ماليةٍ، وتضامن أوروبي مع الدور التركي في سوريا عقب إدانتهم لعمليات النظام السوري ضد إرهابي أردوغان في إدلب.
لم تغب ليبيا عن طاولة الابتزاز التركي، إذ يسعى أردوغان بكل السبل لنيل رضا أوروبا عن تدخله في الأزمة هناك، وكشف عن ذلك مناقشة الأزمة الليبية مع الأوروبيين خلال اجتماعي بروكسل والفيديو كونفرانس.
عقب حصول أردوغان على تعهد بتحقيق جزءٍ من مطالبه أعلن إغلاق حدود بلاده مع اليونان وبلغاريا بذريعة الإجراءات المتخذة لمواجهة تفشي وباء كورونا، وذلك في مقابل تعهداتٍ شفهيةٍ، وهو الأمر الذي لم يكن ليُقدم عليه لولا تغير المعادلة بسبب وباء كورونا. بشكل عام خسر أردوغان هذه المرة، وهو المكسب الذي لن تتنازل عنه أوروبا مستقبلاً في التعامل معه، بعدما أدركت أنّ الحزم هو ما يردع أردوغان.