سياسة

هل السياسات التركية منفصلة عن التاريخ العثماني؟


يردد البعض القول بأن من يتناولون التاريخ العثماني بالنقد الحاد يمارسون نوعا من “إسقاط السياسة الحالية على التاريخ” أو “استغلال التاريخ لخدمة أغراض سياسية حالية”.

ويعد ذلك واحدا من الاتهامات الجاهزة التي يتشدق بها العثمانيون الجدد على سبيل التحصين لتاريخ أسلافهم من النقد، وهو اتهام مفضوح لأن الهجوم على حقبة الاحتلال العثماني أمر قديم لم يكن بالضرورة مرتبطا بالعلاقات السياسية مع الدولة التركية.

وثمة سؤال هام هنا يطرح نفسه: هل يمكننا أن نفصل الواقع المعاصر عن التاريخ؟. بالتأكيد لا يمكننا أن نفعل، فما الواقع سوى نتاج هذا التاريخ، كما أن من أهم أنشطة الباحث في التاريخ أن يقوم بتتبع حالة معينة بشكل تنازلي ليصل إلى بداية الخيط الذي كان يمسك بطرفه الآخر.

كذلك يردد المغالطون أننا- معشر الناقدين للتاريخ العثماني- نتعامل مع الدولة التركية الحالية كما لو كانت امتدادا للدولة العثمانية، بينما هي دولة مختلفة.

إن مثل هذا القول منهم بأن “الدولة التركية الحالية هي دولة غير دولة العثمانيين” هو كلمة حق يراد بها باطل.

فصحيح أن الجمهورية التركية منذ العام 1924 تختلف عن “الدولة العثمانية” (1290-1924) ولكن “النظام الحاكم حاليا للجمهورية التركية” يتبنى نفس السياسات الخارجية للدولة العثمانية البائدة.

فلنضع الأمور في نصابها إذن، إن مشكلتنا ليست مع “الجمهورية التركية” في المطلق وإنما هي مع “النظام الحاكم الحالي” لتلك الجمهورية ممثلا في رأسه “رجب طيب أردوغان” وانتهاجه نفس السياسات العدوانية السابقة للدولة العثمانية ولكن مع إلباسها ثوب العصر.

وهل قيام حاكم دولة أو قائد تنظيم باستحضار سياسات قديمة وتبنيها هو بالأمر الجديد؟. ألم يحاول تنظيم داعش الإرهابي أن يقدم نفسه باعتباره امتدادا لدولة الخلافة؟، ألم تقم نازية أدولف هتلر على استحضار فكرة “الإمبراطورية الرومانية (الجرمانية) المقدسة”، وفاشية بنيتو موسوليني على استحضار فكرة “المجد الروماني”؟.

فهل يغفل هؤلاء-أو يتغافلون-عن فكرة “استحضار نظام حاكم لنموذج تاريخي ومداعبة النوستالجيا التاريخية لأجل تحقيق مكسب سياسي”؟ لا أحسبهم بهذه السذاجة، بل لعلهم هم من يحسبوننا سذجا إذ نصدق أنهم لا يدركون حقيقة ما يفعل النظام التركي الأردوغاني!.

ثمة شيء يمكننا وصفه بـ”النمط التاريخي”، وهو وجود سلوك معين متكرر في سياسات بعض الدول أو التنظيمات وقد تقوم دول أو أنظمة أو تنظيمات لاحقة بتبنيه، كأن يقال أن هذه الدولة أو تلك تتبع “نمط السلام الروماني” نسبة لسياسة روما في فرض السلام بإخضاع الجميع، وهو نفس ما يحدث مع النظام التركي، فنحن حين نقول أنه “يتبنى النمط العثماني في سياساته الخارجية” فهذا يعني أنه يتبع نفس السلوك.

فسلوك مثل التدخل العسكري في الشؤون الداخلية لدول مثل سوريا والعراق وليبيا ورعاية الإرهاب فيها هو نفس نمط العثمانيين في التطلع للتوسع والغزو.

صحيح أن الدولة العثمانية قد بادت وانتهت، وصحيح أن الدولة التركية الحالية هي جمهورية لها نظام حكم مختلف عن الحكم السلطاني، ولكن هذا فيما يتعلق بـ”الرسميات”، أما نحن فنتحدث عن السياسة الخارجية الفعلية وما يجري على أرض الواقع.

الواقع الذي يقول أن الفرق بين النظام التركي الحالي والدولة العثمانية ليس إلا كلاما على أوراق رسمية واختلاف للشكليات بحكم اختلاف الزمن، ولكن التطلعات والسياسات والأنماط والأساليب هي نفسها، وأن أردوغان هو شخص مهووس بفكرة اعتبار نفسه امتدادا لـ”السلاطين الغزاة” ويحاول إشباع هوسه هذا بالطرق التي يفرضها اختلاف العصر.

والمدافعون عن أردوغان والسياسات التركية ما هم إلا بين جاهل مُضَلَل بالنوستالجيا العثمانية أو مأجور لديه مشكلة مع دولته فانقلب عليها وراح يبحث عن رعاة لكيده ضد وطنه فوجد في عدو هذا الوطن حاضنا وراعيا لتتحقق من كلا منهما للآخر المنفعة، ثم راح يحاول أن يتلاعب بالكلمات والحقائق فيقول إن من يهاجمون العثمانيين إنما هم يخلطون بين الدولة العثمانية والدولة التركية.
عندما تستحضر نموذجا تاريخيا وتحاول استخدامه لمداعبة جاهل أو ساذج أو مغفل بقولك له “هل ترى هذا؟ ادعمني وسأقدم لك مثله” فيقوم ذوو الغيرة على التاريخ والوطن بنقد هذا النموذج وإظهار مثالبه، فلا تكن وقحا صفيقا إلى حد التهليل بأن خصومك يوظفون التاريخ لصالح السياسة ويخلطون الأوراق!.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى