“هجوم” السلام الإماراتي
وسط أنباء إقليمية كلها سيئة تبدأ من انفجار مرفأ بيروت المأساوي وتدهور الحالة اللبنانية بعدها، إلى الأشكال المختلفة للتحرشات الإيرانية والتركية بالمنطقة العربية، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة بخطوة شجاعة لعكس اتجاهات العنف والصراع والتحرش والابتزاز إلى اتجاه السلام والتنمية والازدهار.
الخطوة بدت مفاجئة عندما اكتملت أركانها وأدواتها، ولكنها كانت تتويجا لجهود كبيرة في الجانب التفاوضي والدبلوماسي والسياسي.
هذا المدخل يليق بدولة الإمارات وما حققته في مجالات شتى تكنولوجية سواء كان ذلك في الفضاء أو الطاقة الشمسية أو الأخرى النووية؛ وما أنجزته خلال الأعوام القليلة الماضية كدولة هامة في إطار الاقتصاد العالمي. لم تدخل الإمارات للتعامل مع إسرائيل إلا من مواقع قوة اقتصادية تقدم خدمات ملموسة للاقتصاد العالمي في مجالات الاستثمار والنقل الجوي وإدارة الموانئ العالمية. المدخل هكذا يؤهل الإمارات لكي تبدأ هذه الموجة الجديدة المضادة لكل ما هو شرير في الإقليم وبهدف واضح من الزاوية العربية والفلسطينية وهو إيقاف الضم الإسرائيلي للمزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخلق نقطة انطلاق إقليمية جديدة للتعامل مع قضايا الإقليم. كانت الخطوة الإماراتية باختصار تخلق سبيلا آخر للتعامل مع القضية الفلسطينية ليس فيه الصراخ الدائم، ولا المباهاة بمعرفة القانون الدولي في عالم لا تحكمه سلطة جامعة، ولا الإرهاب الذي انتهى بالعالم العربي لما وصل إليه من تمزق وانهيار دول.
الخطوة الإماراتية جاءت بتأييد من دول عربية شقيقة كانت تعمل من أجل وقف خطوات الضم الإسرائيلية من ناحية؛ وتحقيق الاستقرار اللازم للتنمية والتقدم في الإقليم كله. المملكة الأردنية الهاشمية من ناحيتها كانت تمارس ضغوطا كبيرة على إسرائيل لوقف الضم؛ أما مصر فلم تؤيد الاتفاق فقط وقت صدوره بأقوى العبارات، وإنما وضعت تجربتها التاريخية للسلام مع إسرائيل في مسار تحقيق الأمن والسلام في المنطقة كلها. ولمن لا يعرف فإن التجربتين المصرية والأردنية، والآن التجربة الإماراتية، نبعت كلها من إدراك صادق لحقيقة الأوضاع في المنطقة الشرق أوسطية التي باتت من دون مناطق العالم كلها ممتلئة بالمتفجرات والمزايدات وأشكال العنف المختلفة من إرهاب إلى حروب أهلية وكل ذلك مكلل بمكانة متواضعة في العالم وفقا لمعايير الفقر والغنى، والثروة، والتعليم، والعلم والمعرفة، وباختصار القوى الصلبة والناعمة والذكية. كان الدبلوماسيون يعرفون الكثير نظريا عن “توازن القوى” ولكن المُشاهد لا يجد أثرا لها في الاختيارات العربية استراتيجيا وتكتيكيا.
نتيجة هذه الفجوة المعرفية فإننا لا نجد كثيرا من “الاستراتيجية العليا” التي تضع الرؤية، والاستراتيجية التي تعبئ وسائط القوة، ونجد أنفسنا في قضايا الحرب والسلام غارقين في التكتيك، والأخطر في تغليب “الموقف” أو ال Grand Standing على السياسة أو Policy التي تغير الواقع. ظهر ذلك بشدة في المفاوضات العربية الإسرائيلية السابقة، وفي تعلق الدبلوماسية العربية باتجاه العمل من خلال المنظمات الدولية، أو عقد مؤتمرات دولية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي رغم المعرفة التامة أنه في إطار ذلك يصبح العرب والقضية الفلسطينية أسيرة في يد أكثر الأطراف تطرفا، ومن ورائهم دول – الآن هي إيران وتركيا- ومزايدون من أشكال شتى. وما كان غائبا عن الصورة تماما تلك التطورات الدامية التي جرت في المنطقة العربية في أعقاب ما سمي “بالربيع العربي” ونتائجه، سواء تلك المتعلقة بالراديكالية الإسلامية أو إعطاء الفرصة لدول الجوار لاستغلال الانقسامات الداخلية في دول عربية، أو العدوان المباشر عليها مستخدمين في ذلك أدواتهم مثل الإخوان المسلمين في قطر أو حزب الله في لبنان وسوريا أو الحوثيين في اليمن.
في التجربة المصرية نجد أن الرئيس السادات اختار استراتيجية أخرى بدأت بحرب أكتوبر، ولم تنته بزيارة القدس والحديث أمام الكنيسيت الإسرائيلي، وإنما أعقبتها مفاوضات مباشرة نعرف جميعا الآن نتائجها التي استعادت الأرض المصرية المحتلة، وحافظت على فرصة للمستقبل المصري، وفتحت الطريق لتسوية فلسطينية وعربية مع إسرائيل. ومع ذلك فإن الدبلوماسية العربية استمرت على عشقها للمفاوضات متعددة الأطراف، والساعية إلى سلام “عادل وشامل” دون مساندة قوية من اتفاق عربي أو عناصر القوة اللازمة. كان ذلك يعني في جوهره مفاوضات تجري بينما إسرائيل تقيم الحقائق على الأرض، و نصيبنا العربي تسجيل مخالفاتها للقانون الدولي والأعراف الدولية. كانت القضية الفلسطينية تنزوي في الخلف وتصبح رهينة في يد دول وجماعات لا تريد لا حلا ولا تحريرا. والمدهش هو ما جرى بعد أن تحررت أرض مصر وأصبحت أكثر قدرة على المشاركة بفاعلية في استراتيجية المفاوضات المتعددة الأطراف الباحثة عن السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط. وللوهلة الأولى أعطت السابقة المصرية الساداتية دفعة للسلام الأردني الإسرائيلي، ومبادرة السعودية في فاس قبلها، وحتى اتفاق أسلو الذي أعطى للفلسطينيين أول كيان سياسي لهم في التاريخ. كان السلام الذي سعت إليه مصر يعطي قدرات فائقة داخل الساحة الإسرائيلية ذاتها من حيث التأثير وإعادة هيكلة البيئة التفاوضية.
المبادرة الإماراتية الشجاعة الآن تبدأ فتحا جديدا في ظل ظروف صعبة تمر بها المنطقة كلها، وفي مواجهة تحديات قاسية ربما سوف يكون أكثرها قسوة موقف الجماعات الفلسطينية المختلفة من المبادرة، والتي ما اتفقت على شيء إلا ساعة مهاجمة العرب الآخرين. المصريون يعرفون التجربة جيدا، ولكنهم يعرفون أيضا أن من يدخلها الآن لديه من الأدوات والقدرات والمواهب والتحالفات الإقليمية ما يضع المسار العربي على طريقه الصحيح. الأمر هنا يعتمد في نجاحه على الاستمرار في “هجوم” السلام الإماراتي من خلال: أولا البناء على ما تحقق بالفعل وهو عقد اتفاقات في المجالات التي تفتح أمام الإمارات والعرب كل ما هو مفيد في العلوم والتكنولوجيا. وثانيا تقدم الدعم الاستثماري للعرب داخل إسرائيل ومساندتهم في تحقيق المساواة داخل المجتمع الإسرائيلي. وثالثا إعادة التفكير في استراتيجية المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين والبحث مرة أخرى في حل الدولة الواحدة (٣٧٪ من الفلسطينيين يؤيدون هذا الحل) أو حل الدولة الكونفدرالية. ورابعا لبناء أرضية حقيقية لبناء السلام العربي الإسرائيلي فلابد من فتح أبواب إسرائيل للدخول العربي لدعم الحقائق الديمغرافية التي تقول إنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط يوجد ١٢ مليون نسمة نصفهم من اليهود ونصفهم الآخر من العرب. ومن عجب فإن النصفان الآن يجمعهما سوق اقتصادي واحد، واستخدام لعملة واحدة، ومنظومة أمنية واحدة!
ما فعلته الإمارات الآن هو عملية اختراق لمعضلة ظلت مستعصية على الحل، وخلال المرحلة المقبلة سوف نجد دولا عربية أخرى على الطريق، وسوف يكون مواصلا لقوة الدفع التي ولدتها الإمارات أن تجتمع دول الاستقرار والتنمية والتقدم في المنطقة على برنامج عمل للأمن الإقليمي العسكري والاقتصادي، يضع المنطقة كلها على طريق حاولته المبادرة العربية من قبل، ولكنها لم تحقق فيه اختراقا استراتيجيا. مبادرة الإمارات تبدأ مشروعا جديدا وفق ظروف وتطورات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ندعو الله ألا تضيع هذه المرة لأن ضياعها سوف يعني استمرار الحالة المظلمة التي نشاهدها الآن.
نقلا عن العين الإخبارية