سياسة

نيوزيلندا.. رحى القوميات ودموية الأصوليات


هل هو قدر مقدور في زمن منظور أن نفتح أعيننا بين الفينة والأخرى على عمل إرهابي بشع تمتلئ تفاصيله بجزئيات الكراهية المرة والتعصب الأعمى؟

هذا ما جرت به المقادير صباح الجمعة، ويمكننا أن نطلق عليها بدون أي مغالاة “الجمعة الحزينة”، وهو ضرب من ضروب الكراهية التي لا تفيد عندما تتجسد في صورة أعمال إجرامية انتقائية، تلتمس طرقها عبر الآخر المغاير عرقا أو دينا، وكأنه العدو الواجب الانتقام منه بالضرورة.

ما الذي جرى في نيوزيلندا؟ ولماذا؟ وكيف جرى؟

من المبكر أن نستبق التحقيقات الأمنية، لكن الجواب المؤكد هو أن خللا إنسانيا دفع أحد المصابين بداء الإسلاموفوبيا وأمراض أخرى إلى أن يفتح نيران أسلحته الآلية على مصلين آمنين في عدد من المساجد، ليوقع عشرات القتلى والجرحى.

الإرهاب لا دين له، هي ليست عبارة إنشائية بل حقيقة واقعية، فالذين قتلوا الركع السجود في مساجد وكنائس مصر وأوروبا ونيوزيلندا طوال الأعوام القليلة الماضية هم خليط من أتباع الأديان ومن اللادينيين من مختلف بقاع وأصقاع الأرض، لم يعرفوا من الدين إلا ظاهره، بل اختطفوه وساروا به كرهينة لتفسيراتهم وتأويلاتهم الملتوية، وأراقوا الدماء الطاهرة بدون وجه حق.

من جديد يفتح حادث نيوزيلندا الأذهان على المقابلة الممجوجة بين أصولية متطرفة شرقية إسلاموية، وتيارات قومية ويمينية، شوفينية وعنصرية غربية.

ويكاد المشهد ينحو إلى دائرة الفعل وردة الفعل، فقد كتب إرهابي نيوزيلندا أنه قام بفعلته وفي جزء منها انتقام لحادث جرى في أوروبا، وها هو يقتص من مسلمي نيوزيلندا.

روح الطغيان المخيف التي خيمت على أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين تكاد تظهر للعلن مرة أخرى، والعذر هذه المرة هي الهجرة والمهاجرون.

وكأن هؤلاء هم السبب المباشر وراء كل الأمراض الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي عرفتها الدوائر الغربية في العقود الأخيرة، وهذا أمر ينافي ويجافي الحقيقة جملة وتفصيلا.

السؤال المخيف هو: هل دخل العالم في دائرة انتقام رهيبة ما بين الفعل والرد عليه، الأمر الذي أشار إليه البابا فرنسيس بابا الكنسية الكاثوليكية ووصفه بأنه “حرب عالمية ثالثة مجزأة”؟

الجواب يحيلنا إلى الواقع المعاصر، وفيه ومن أسف انفعالات دموية أوروبية وأمريكية، وها هي الآن أسترالية ونيوزيلندية على العنف والقتل الداعشي والقاعدي في أمريكا وأوروبا وأستراليا أيضا خلال العقدين الماضيين، الأمر الذي أطلق مشاعر الإسلاموفوبيا التاريخية للقرون الوسطى من عقالها، وباتت كتابات “دي مونتي كروتشي” رائجة، بل إن أصواتا بعينها تدعو “شارل مارتل” إلى الاستيقاظ، وفي الاسم إشارة رمزية للمواجهات التاريخية ذات الملمح والملمس الديني بين الغرب والإسلام.

وبمعنى آخر يبدو وكأن هناك من يدفع العالم دفعا في طريق إحياء نعرات دينية وحروب أصولية، ما فتئت تنشر نيرانها في القلوب والعقول.

يوما تلو الآخر تثبت لنا الأحداث المؤلمة أن المواجهات الأمنية والخطط الاستخبارية ليست هي الحل لمواجهة العنف والإرهاب في زمن العولمة المنفلتة، وأن القضية أعقد من ذلك بكثير، فالأمن يأخذ بظواهر الأمور وبقدر ما يتوافر له من المعلومات.

أما الخفي فموصول بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذه لا يمكن بحال من الأحوال السعي وراءها والتفتيش من حولها، وهو ما يفسر لنا ظاهرة الذئاب المنفردة، والتي جعلت من واقعنا المعاصر قلقا في النهار وأرقا في الليل.

الخطاب الذي تركه الإرهابي الأسترالي من ورائه مثير للتأمل والتعمق، ذلك أننا أمام يميني يصب جام غضبه من منطلقات فكرية عمومية، والويل كل الويل من التعميم.

تلك الظاهرة الكارثية التي كلفت البشرية الكثير جدا من الأهوال، والأكثر هولا في المشهد التجهيزات وبشاعة التكتيك الذي أوقع القتلى والمصابين.

ورويدا رويدا يتضح لنا أن الأمر يتجاوز مقدرات فرد بعينه إلى خلايا ذات أبعاد محمولة على رياح السموم، ولا يعلم أحد أين ستضرب غدا أو من ستختار ليحل به قصاصها غير العادل.

لقد تمثلت إحدى ملامح الجنون التي ارتبطت بحادث نيوزيلندا في استخدام أدوات المعرفة الحديثة، وبنوع خاص لوسائل التواصل الاجتماعي من إنترنت وفيسبوك وغيرهما في إشاعة الرعب في النفوذ، فالجاني هذه المرة عمد إلى تصوير وبث مباشر لوقائع المذبحة الآدمية البشعة على الهواء مباشرة، وحتى يراها العالم في وقت حدوثها، وهنا يصعب علينا القطع بالسلامة العقلية والوجدانية لهكذا أناس وبشر خرقوا كل ما هو إنساني وعقلاني، ووصل بهم الأمر لحد الجنون المطبق، ما يلقي مستقبلا بأسئلة عديدة حول الرقابة الضميرية والأخلاقية للقائمين على هذه الوسائل الحديثة وتطويعها لخدمة الخير أو الشر، ولصناعة الصيف أو الشتاء.

جاء حادث نيوزيلندا في توقيت مواكب لتصفية آخر جيوب داعش في منطقة الباغوز السورية، ومع ما جرى يتوجب لنا أن نتساءل: “هل هناك من أعطى للدواعش ومن لف لفهم قبلة الحياة من جديد؟ ومن يريد للعالم أن يقع دوما بين المطرقة والسندان، وتدهسه أحجار رحى الأصوليات والقوميات؟

التاريخ نعم.. ليس كله مؤامرة، لكن المؤامرة بالفعل موجودة في وقائع التاريخ.

ما الحل؟
من هنا يمكن للمرء أن يعود إلى الرؤى التي قدمتها وتقدمها الإمارات من أجل عالم أكثر سلاما وأقل عنفا، وما شهدته على أراضيها من لقاء السحاب في فبراير/شباط الماضي بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور الطيب.

الحل يكمن في الحوار والجوار، والعيش المشترك والإنساني الواحد، وما خرج به اللقاء من وثيقة الأخوة الإنسانية تكفل للعالم الوقوف معاً كأخوة متحابين في مواجهة أضاليل العنف والقتل.

لا يمكن لسفاح نيوزيلندا أن تكون له دالة على القراءة أو المعرفة، ومن البديهي القطع بأن لا مسيحية تتيح أو تبيح له فعلته النكراء، ولو توقف قليلا عند تصريحات البابا فرنسيس عن الهجرة والمهاجرين لعرف أنهم قيمة مضافة وثراء إنساني لبلاده ولشخصه، وليسوا انتقاصا منها أو اختصاما من ثرواتها، لكن الذين لا يقرءون هم الموتورون الكارهون في الحل والترحال.

الخلاصة.. الكراهية لا تفيد.. الحوار والجوار هما الحل، والتسامح يبقى الأنفع والأرفع.. اللهم رحماك في الحال والاستقبال.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى