من مالي إلى النيجر… تحالف الفوضى بين الإرهاب والجريمة المنظمة
تشهد منطقة الساحل الإفريقي مرحلة غير مسبوقة من الانفلات الأمني مع تصاعد الهجمات التي تشنها التنظيمات الإرهابية وتنامي نفوذ العصابات المسلحة، في ظلّ هشاشة الأنظمة العسكرية الجديدة، وتراجع التعاون الإقليمي، وتزايد الارتهان للفاعلين الأجانب، بينما تشمل بؤر التوتر الرئيسة كلاً من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث باتت الهجمات تتخذ طابعاً “هجينا” يجمع بين تكتيكات حرب العصابات والأساليب العسكرية النظامية، ما جعل المواجهة أكثر صعوبة وتعقيداً.
وفي مالي، تعيش البلاد منذ أشهر على وقع تصعيد متواصل تقوده جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية لتنظيم القاعدة. هذه الجماعة اعتمدت استراتيجية استنزاف طويلة الأمد تقوم على تفادي المواجهات المباشرة مع الجيش، مع التركيز على عمليات تطويق واستهداف للقوافل العسكرية وقطع طرق الإمداد. وقد أسفر أحد الكمائن الأخيرة عن مقتل سبعة جنود وتدمير خمس دراجات نارية عسكرية، في مؤشر على أن التنظيم يسعى إلى إنهاك القوات النظامية تدريجياً لا إلى تحقيق انتصار سريع.
لكن الخطر الأمني ليس وحده ما يهدد مالي؛ فالعاصمة باماكو تواجه اليوم أزمة اقتصادية خانقة جراء العقوبات الإقليمية المفروضة بعد الانقلاب العسكري، مما جعل شاحنات الوقود تسير بمرافقة من “الفيلق الروسي الإفريقي” لحمايتها من الهجمات، في مشهد يعكس هشاشة الأمن الداخلي وعمق التبعية لشركاء خارجيين جدد بعد انسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة.
وفي بوركينا فاسو، لا تبدو الصورة أقل قتامة. فقد تمددت الجماعات المتطرفة في شمال البلاد ووسطها، وتمكنت خلال الأسابيع الأخيرة من السيطرة على موقعين عسكريين استراتيجيين وسط تعتيم إعلامي رسمي. ورغم إعلان القوات الخاصة عن تنفيذ غارة جوية أودت بحياة 32 مقاتلاً من عناصر القاعدة، إلا أن التنظيمات ما تزال قادرة على المناورة واحتلال مناطق جديدة مستفيدة من الطبيعة الجغرافية الوعرة ومن تراجع الدعم الغربي بعد الانقلابات المتتالية.

أما النيجر، التي انسحبت من التحالفات الإقليمية لمكافحة الإرهاب عقب الانقلاب العسكري في 2023، فتركّز قواتها حالياً على حماية العاصمة نيامي ومحيطها، تاركة المناطق الريفية الواسعة فريسة للفوضى والعنف. وتشير البيانات الميدانية إلى أن عدد القتلى جراء الهجمات الإرهابية منذ الانقلاب قد تضاعف مقارنة بالفترة التي سبقت الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، في دلالة على هشاشة الوضع الأمني وتراجع قدرات الدولة في مواجهة المجموعات المتطرفة.
هذه التطورات مجتمعة تنذر بتحول خطير في موازين القوى داخل الساحل الإفريقي. فبعد سنوات من العمليات العسكرية التي قادتها فرنسا وشركاؤها ضمن تحالف “برخان”، أفسح الانسحاب الغربي المجال لروسيا لتتقدم عبر ما يُعرف بـ“الفيلق الروسي الإفريقي”، وهو امتداد لشركات أمنية خاصة تتخذ من إفريقيا ساحة نفوذ جديدة. غير أن هذا التحول لم يُفضِ إلى استقرار فعلي، بل ساهم في تعقيد المشهد، إذ باتت الجيوش المحلية تخوض حرب استنزاف طويلة دون رؤية استراتيجية واضحة أو دعم دولي منسق.
في المقابل، تستفيد التنظيمات الإرهابية من هذا الفراغ السياسي والعسكري لتعزيز حضورها، مستغلة هشاشة مؤسسات الدولة وانعدام الثقة بين السكان والسلطات. فالمناطق الريفية المهمشة تحوّلت إلى خزّان بشري للعصابات المسلحة، بينما تتراجع قدرة الحكومات على توفير الأمن والخدمات الأساسية. ويخشى المراقبون من أن تتحول بعض المدن الثانوية إلى مراكز بديلة للنفوذ الجهادي تمهيداً لمحاصرة العواصم الكبرى وإسقاطها عبر حرب العصابات.
إلى جانب البعد الأمني، تتفاقم الأزمة الإنسانية في الساحل بوتيرة مقلقة، فالنزوح الجماعي من القرى بات مشهداً يومياً، والطرق التجارية مغلقة أو تخضع لإتاوات تفرضها الجماعات المتطرفة. ومع تراجع المساعدات الدولية وتقلص دور المنظمات الإنسانية بسبب القيود التي تفرضها الأنظمة العسكرية، تتزايد معاناة السكان وسط موجات من الجفاف وندرة الموارد الغذائية.
ويرى محللون أن استمرار النهج العسكري الأحادي الذي تتبعه حكومات الساحل سيؤدي إلى مزيد من الانهيار، ما لم يُقترن بإصلاح سياسي يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، فالجيوش المنهكة لا تستطيع وحدها مواجهة تهديد يتغذى على الفقر والتهميش وضعف الحكم المحلي. كما أن الرهان على الدعم الروسي لم يحقق نتائج ملموسة حتى الآن، في ظل محدودية قدرات موسكو وتعدد ساحات تدخلها الخارجية.
إن المشهد في الساحل اليوم يتجاوز مجرد “تصاعد للعنف”، ليعكس تحولاً بنيوياً في طبيعة التهديد، حيث تتقاطع حروب العصابات مع الانقلابات السياسية، ويتداخل الإرهاب مع الجريمة المنظمة والاقتصاد الموازي. وبين عجز الجيوش، وتراجع الثقة الشعبية، وانقسام الولاءات الإقليمية، يبدو أن الساحل الإفريقي يقترب من لحظة حاسمة قد تعيد رسم خريطة الأمن في القارة بأكملها.







