سياسة

من التصعيد إلى الحوار.. استراتيجية كورية جديدة تعيد ترتيب المعادلة الآسيوية


في إطار تحوّل استراتيجي، تتعاون بيونغ يانغ مع روسيا والصين للمساعدة في تخفيف الهيمنة الأمريكية.

ولعقود، اعتمدت السياسة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية على الأمل في أن يُخفف الحوار والتفاوض والوعد بتخفيف العقوبات من طموحات بيونغ يانغ النووية، وهي ديناميكية تكهن البعض أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية قد تُنعشها.

تحالف جديد

لكن هذه التوقعات تغفل تحولًا جذريًا في الحسابات الاستراتيجية لكوريا الشمالية التي لم تعد تسعى إلى مجرد منفعة معاملاتية من واشنطن بل أصبحت تؤكد نفسها كقوة نووية .وعسكرية وتتحالف مع روسيا والصين بهدف المساعدة في صياغة نظام عالمي متعدد الأقطاب قادر على إضعاف الهيمنة الأمريكية، وفقا لما ذكرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.

واعتبرت المجلة أن إدراك هذا التحالف الجديد أمر ضروري إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في رسم مسار واقعي للمضي قدمًا في شبه الجزيرة الكورية.

وطوال الحرب الباردة وما بعدها، اعتمدت كوريا الشمالية على دبلوماسية متوازنة لضمان بقاء النظام وسط تنافس القوى العظمى حتى حملت التسعينيات مجموعة جديدة من التحديات .مما أجبر بيونغ يانغ على توسيع نطاق تعاملها مع الولايات المتحدة والسعي إلى التطبيع مع اليابان وكوريا الجنوبية.

وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، جسدت المحادثات السداسية التي جمعت كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا. استراتيجية بيونغ يانغ المستمرة في تحقيق التوازن بين القوى المتنافسة مع تعزيز مصالحها الاستراتيجية الخاصة.

استراتيجية الدبلوماسية المتساوية

وخلال رئاسة ترامب الأولى، أحيا زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون استراتيجية الدبلوماسية المتساوية ففي حين التقي ترامب 3 مرات بين عامي 2018 و2019 في سنغافورة وهانوي وبانمونجوم. وعقد في الفترة نفسها 5 قمم مع الرئيس الصيني شي جين بينغ وهو ما أظهر جهود بيونغ يانغ للمناورة بين واشنطن وبكين سعياً لتحقيق أقصى قدر من النفوذ والفائدة.

ومع ذلك، منذ حرب أوكرانيا، انتقلت بيونغ يانغ بشكل حاسم من التحوط إلى التوافق فصوتت في مارس/آذار 2022 ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة .الذي يطالب روسيا بإنهاء الحرب وهي خطوة مثّلت إشارة واضحة على الدعم السياسي لموسكو.

وفي السنوات التالية، عمّقت كوريا الشمالية تعاونها العسكري مع روسيا بشكل كبير حث وقع كيم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اتفاقية عسكرية شاملة في يونيو/حزيران 2024 في تعزيز تاريخي لشراكتهما.

وبعد الاتفاقية، زوّدت كوريا الشمالية روسيا بكميات كبيرة من الذخيرة وقذائف المدفعية والصواريخ الباليستية قصيرة المدى، كما أرسلت أكثر من 11 ألف جندي إلى روسيا. لدعم عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا وهو ما يمثل تحوّلاً ملحوظاً في دور كوريا الشمالية، من الاعتماد على الدعم الخارجي إلى أن تصبح مورداً فعالاً للموارد العسكرية لقوة عظمى.

واستفادت كوريا الشمالية من دعم روسيا في قطاعات متعددة. حيث ساهمت المساعدات الاقتصادية بشكل حاسم في تعافي بيونغ يانغ من صعوبات فترة جائحة كورونا كما تدعم الآن جهود كوريا الشمالية المستمرة لإنعاش اقتصادها الإقليمي.

ومع ذلك، يتجاوز دعم روسيا بكثير المساعدات المادية والاقتصادية فعلى الصعيد العسكري، تتوسع كوريا الشمالية الآن في إنتاج الأسلحة الاستراتيجية المتقدمة. بما في ذلك السفن الحربية وأنظمة الرادار وأنظمة الدفاع الصاروخي وذلك بدعم حاسم من موسكو.

كما أن بند الدفاع المشترك في المعاهدة العسكرية الأخيرة يوفر لبيونغ يانغ طبقة غير مسبوقة من ضمانات الأمن الخارجي.

وتؤكد شراكة كوريا الشمالية التنموية المتعمقة مع روسيا على تحول جوهري في توجهها الجيوسياسي ففي مواجهة استمرار التنافس بين القوى العظمى. عزمت بيونغ يانغ على مواءمة مسارها الاستراتيجي مع كل من موسكو وبكين.

تعتقد كوريا الشمالية أن الهدف النهائي لموسكو وهو إجبار واشنطن وحلف شمال الأطلسي على التخلي عن سياساتهما العدائية يتماشى بشكل وثيق مع مصالحها الاستراتيجية لذا تعهد كيم خلال اجتماعه مع سكرتير مجلس الأمن الروسي، سيرجي شويغو. بتقديم “دعم غير مشروط” لموقف موسكو بشأن أوكرانيا وغيرها من القضايا الدولية الرئيسية.

ونددت كوريا الشمالية بالهيمنة العسكرية الأمريكية الأحادية الجانب باعتبارها تهديدًا للسلام العالمي، مما عزز تحالفها مع روسيا الذي من المرجح أن يستمر .حتى بعد انتهاء حرب أوكرانيا مع التزامهما بالهدف الاستراتيجي طويل الأجل المتمثل في إعادة تشكيل النظام الدولي.

ويعكس هذا المنظور أيضًا تفسير كوريا الشمالية للعلاقات الأمريكية الصينية ليس كصراع تجاري قصير الأجل، بل كصراع على الهيمنة بين قوتين عظميين فمن وجهة نظر بيونغ يانغ. فإن بكين مصممة على المقاومة طالما أن واشنطن تهدد تنميتها الوطنية وصعودها الاستراتيجي.

عروض خارج الاهتمام

وبعدما ضمنت الدعم السياسي، والاقتصادي، والعسكري من روسيا والصين. تعتبر كوريا الشمالية الآن العروض الأمريكية التقليدية مثل تخفيف العقوبات، والتعاون الاقتصادي، أو حتى معاهدة سلام رسمية لا تهم مصالحها الجوهرية.

ولكي ينجح أي جهد دبلوماسي، يجب على واشنطن أولًا إدراك استراتيجية كوريا الشمالية طويلة المدى في النظام متعدد الأقطاب ومعالجة الروابط المتنامية بين ديناميكيات الأمن في شمال شرق آسيا والحرب في أوكرانيا واستشراف المسار المستقبلي .للعلاقات الأمريكية مع الصين وروسيا ومواجهة التعاون العسكري المتنامي بين بيونغ يانغ وموسكو.

لذا، ينبغي أن يركز أي نهج جديد على إطار أمني إقليمي واسع النطاق يُشرك جميع الجهات الفاعلة لتخفيف التوترات. وتعزيز الشفافية، وبناء الثقة في ظل بيئة جيوسياسية سريعة التغير.

وبينما تُفكّر واشنطن في خفض قواتها في كوريا الجنوبية فإن ربط ذلك بسحب كوريا الشمالية لقواتها تدريجيا من روسيا، إلى جانب التزام روسي بالتخلي عن التدخل العسكري في شبه الجزيرة الكورية، قد يعزز فكّ الارتباط ويخفف من المخاوف الإقليمية.

لكن يجب دراسة رد فعل بكين المُحتمل، خاصة إذا أُعيد تمركز القوات الأمريكية المُنسحبة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لذا ستكون الشفافية مع الصين وإشراكها في الحوار الإقليمي أمرًا أساسيًا.

ويمكن أن تُركز الخطوة الثانية على منع الانتشار النووي وخفض التصعيد في شبه الجزيرة الكورية ويمكن التوصل إلى اتفاق ثلاثي تُعلن سول رسميًا عن عدم السعي لامتلاك أسلحة نووية. وتمتنع واشنطن عن نشر أصول استراتيجية نووية في كوريا الجنوبية، وتُجمّد بيونغ يانغ جميع تجارب الصواريخ.

ومن المرجح أن يحظى هذا الإطار بدعم الصين وروسيا، لأنه يخدم مصالحهما المشتركة في منع الانتشار النووي وتعزيز الاستقرار الإقليمي .كما أنه يتماشى مع استراتيجية ترامب “أمريكا أولاً” من خلال تخفيف العبء العسكري الأمريكي، وتعزيز التحالفات، ومنع الانتشار النووي. وتعزيز النفوذ في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى