سياسة

من اغتيال الحريري إلى انفجار بيروت


في 14 فبراير 2005، اُغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وسط مدينة بيروت بواسطة شحنة متفجرات أودت بحياته مع واحد وعشرين فرداً، وأصابت أكثر من مئتين آخرين. ترتب على الحادث ردود فعل لبنانية قوية ضد الوجود السوري في لبنان، مما اضطرها إلى سحب قواتها بعد سيطرة فعلية استمرت ثلاثة عقود. وبعد عامين، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1757 بتشكيل محكمة خاصة للتحقيق في جريمة الاغتيال باعتبارها عملاً إرهابياً.

وفي 4 أغسطس 2020، وقع الانفجار المُروع في مرفأ بيروت الذي خلَّف آثاراً كارثية ما زالت ماثلة للعيان. وكما حدث في اغتيال الحريري، اختلفت القوى السياسية ما بين مُطالبين بتحقيق دولي في الحادثة لعدم الثقة في حيادية ونزاهة سُلطات التحقيق اللبنانية، وآخرين يضعون العراقيل أمام هذا الطلب بحجة سيادة لبنان وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

وعلى مدى الخمسة عشر عاماً التي فصلت بين الحدثين، لم تتغير مواقف أغلب الأطراف تقريباً، وهو ما يشير إلى “تكلُّس” الحياة السياسية في لبنان وجمودها. وأياً كان الأمر، فإن ذلك لم يمنع العدالة من أن تأخذ مجراها. ففي المرة الأولى، وإزاء تلكؤ مجلس النواب اللبناني في الاجتماع لإقرار طلب الحكومة إلى الأمم المتحدة لإجراء تحقيق دولي، فإن مجلس الأمن تصدَّى للموضوع وأعطى السُلطات اللبنانية مهلة زمنية لاستيفاء موافقة مجلس النواب، وإلا فإن المجلس سوف يتخذ قراره بدونها، وهو ما حدث فعلاً. وتكرر نفس المشهد في كارثة مرفأ بيروت، ويبدو أنه تم حل الخلاف مؤقتاً من خلال اشتراك محققين فرنسيين وأمريكيين وآخرين في البحث عن الأدلة وتمحيصها.

في هذا السياق المضطرب، تشكلت محكمة التحقيق في اغتيال الحريري عام 2009 ومقرها العاصمة الهولندية لاهاي. وفي يونيو 2011، وجَّهت المحكمة الاتهام لأربعة لبنانيين كلهم ينتمون إلى حزب الله، فردَّ أمينه العام بأن هذه الاتهامات باطلة، ووصف المحكمة بأنها أداة في يد الغرب وإسرائيل. وفي أغسطس، أعلنت المحكمة الاتهامات الموجهة إلى المتهمين مشفوعة بالأدلة التي تشير إلى مشاركتهم في التخطيط لجريمة الاغتيال وتنفيذها.

وفي أكتوبر 2013، أضافت المحكمة متهماً خامساً من أعضاء حزب الله أيضاً. وبإعلان الحزب عن وفاة أحد المتهمين، أسقطت المحكمة التهم الموجهة إليه عام 2016، واستمرت في محاكمة الآخرين غيابياً بعد أن أبلغتها السُلطات اللبنانية بعدم إمكانية تحديد أماكن المتهمين.

وعلى مدى هذه السنوات، التقت المحكمة بما يقرب من ثلاثمئة شاهد كان منهم وزراء وبرلمانيون وقادة أحزاب، واطَّلعت على آلاف الصفحات من الأوراق والمذكرات، واستمعت إلى مئات المكالمات التليفونية المسجلة على هواتف المتهمين كما استمعت إلى مرافعات من محامي المتضررين ومن المدعي العام والدفاع.

أصدرت المحكمة حكمها بالإجماع في جلسة علنية يوم الثلاثاء 18 أغسطس 2020، ونص الحكم على إدانة متهم واحد وهو “سليم جميل عياش” بتهمتيْ الإرهاب والقتل العمد، ووصفته بأنه “كان له ارتباطات تنظيمية بحزب الله”، وبرَّأت الثلاثة الآخرين لعدم كفاية الأدلة.

هذا الحكم ابتدائي إذ يجوز استئنافه من جانب الادعاء أو المتضررين، كما أن المحكمة سوف تستمر في محاكمة عياش بشأن مشاركته في جرائم اغتيال أخرى. ويلاحظ أن منطوق الحكم كان قانونياً بحتاً وتأسس على الأدلة والبراهين التي تجمعت لدى المحكمة. وتفسير ذلك، أنها محكمة ذات طابع جنائي أو جزائي تنحصر مهمتها في تحديد الأشخاص الذين شاركوا في جريمة اغتيال الحريري.

وتطرقت حيثيات الحكم إلى البيئة السياسية للجريمة وظروفها، فأشارت إلى أن الاغتيال نُفِّذ لأسباب سياسية، وخطط له أولئك الذين مثَّل الحريري تهديداً لهم، وأن المحكمة تشتبه في وجود مصلحة لحزب الله وسوريا في الاغتيال، ولكنها لم تجد دليلاً مباشراً على تورط قيادات أي منهما في الجريمة.

وأشارت الحيثيات أيضاً إلى أنه لم يتم حماية مسرح الجريمة وتم العبث به، وأن سُلطات الأمن اللبنانية أزالت أدلة مهمة منه، وأن التحقيق الذي أعقب الانفجار كان “فوضوياً”، وأن عملية البحث عن المفقودين لم تكن منظمة، بدليل أن الأهالي عثروا على جثة أحد المفقودين بعد سبعة عشر يوماً من الانفجار.

ورغم أن المحكمة أدانت شخصاً واحداً فقط، فقد ذكرت في حيثيات الحكم أن الجريمة نفذها عدد من الأفراد، مما يعني اعتراف المحكمة بوجود متهمين آخرين لم تتمكن من تحديدهم، وأنهم ما زالوا طلقاء. وعلى نفس المنوال، فبينما استطاعت المحكمة تحديد أن الشاحنة المفخخة التي فجَّرت موكب الحريري تم تهريبها من اليابان إلى مدينة طرابلس، فإنها لم تتمكن من الوصول إلى هوية الأشخاص الذين نقلوها إلى بيروت لاستخدامها في الجريمة. وبينما ذكرت الحيثيات أن شحنة المتفجرات التي استُخدِمت بلغ وزنها 2.5 طن، فإنها لم تتعرض للجهة التي وفرتها. ويرجع ذلك إلى أن المحاكمة كانت غيابية ولم يتمكن القضاة من استجواب المتهمين.

وبعد انتهاء المحكمة من أعمالها، سوف ترفع ما وصلت إليه إلى مجلس الأمن، باعتباره الجهة التي شكَّلتها وكلَّفتها بهذه المهمة، ويجوز لمجلس الأمن أن يُلزم السُلطات اللبنانية بالقبض على المتهم وتنفيذ العقوبة، وذلك باعتبار أن تشكيل المحكمة كان وفقاً للباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بحفظ الأمن والسلم الدوليين، ولكن تحقيق ذلك يخضع للعلاقات بين القوى الكبرى.

لقد انتظر اللبنانيون -والعالم– ثلاثة عشر عاماً لكشف الحقيقة بشأن اغتيال الحريري، مع أنها جاءت ناقصة كما بينت. فكم سينتظرون لمعرفة الحقيقة في انفجار مرفأ بيروت؟

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى