سياسة

“منافع” الحرب الأوكرانية

بهاء العوام


خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأمريكي جو بايدن على وقع أزمة أوكرانيا، يدفع المرء إلى التساؤل ماذا كان يمكن أن يكون عنوانه لو لم تقرر روسيا خوض الحرب مع جارتها.

 

وهذا الخطاب ينطوي على أهمية كبيرة لأنه يسبق الانتخابات النصفية للكونجرس، حيث يحلم الديمقراطيون بأغلبية في غرفتي المؤسسة التشريعية، النواب والشيوخ.

الحدث الأوكراني همش كل الأوضاع الداخلية والخارجية التي كانت تقلق بايدن وحزبه. لا شيء يعلو فوق صوت الحرب، وخاصة إن كان ضحاياها من “البيض” و”أصحاب العيون الزرقاء”. فهم ليسوا مجرد حلفاء، وإنما هم شركاء فيما تصفه أمريكا بالقيم الديمقراطية، والمبادئ الليبرالية التي يتميز بها الغرب دون غيره من الشعوب.

الحزب الجمهوري يدرك رهان الرئيس على أزمة أوكرانيا لحشد الشارع الأمريكي خلف حزبه في الانتخابات النصفية، ونواب المعارضة وصفوا خطاب بايدن بـ”الرجعي” الذي يريد إعادة البلاد إلى حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عندما كان العالم يعيش حربا باردة بين الغرب الرأسمالي والاتحاد السوفيتي الشيوعي.

بايدن تجنب في خطابه ما يمكن أن يخيف الأمريكيين، وهو الحرب المباشرة مع روسيا. كما حرص على طمأنة شعبه بأن أزمة أوكرانيا لن تحمل تداعيات على الاقتصاد الأمريكي وخاصة في قطاع الطاقة. لكن يبدو أن حديثه لم يجد الأصداء الشعبية المطلوبة، ولم يمنع الاقتصاد المحلي والعالمي من التأثر بالأزمة وخاصة أسواق النفط.

ما قدمته وتقدمه الحرب في أوكرانيا للرئيس الأمريكي، يحصد مثله رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، فالحديث عن “فضائح الحفلات” التي كادت أن تودي بمستقبله السياسي في الأمس القريب اختفى، وبات الشارع البريطاني ينتظر جونسون وأعضاء حكومته كل يوم ليتحدثوا عن “شهامتهم” في الدفاع عن الدولة الأوروبية.

يحرص زعيم حزب المحافظين على أن يوسع كل يوم من رقعة عقوبات المملكة المتحدة وسخطها على الروس ردا على مهاجمتهم لأوكرانيا، ولا يتردد أبدا في إجراء الاتصالات وعقد الاجتماعات التي تؤكد أولوية ردع تمدد موسكو في القارة العجوز على أي مشكلة داخلية أو مشكلة ناتجة عن خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي.

الرئيس الفرنسي أيضا يستغل الأزمة الأوكرانية ليبني رصيده في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وكلما أبدى اهتماما أكثر بها كلما التف حوله الفرنسيون على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية. فاليمين بكل أجنحته لم يجد بداً من إدانة “الغزو” الروسي، ومرشحو اليسار بكل أطيافه فقدوا بريقهم أمام ماكرون المدافع عن أوروبا.

بوتين قدمه في حربه على أوكرانيا خدمة كبيرة لليسار الأوروبي لأنه أحرج أحزاب اليمين التي لطالما أيدت سياساته وأبدت إعجابها بفطنته. زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان التي كانت تقدر كثيرا حنكة بوتين السياسية، لم تجد بدا من إدانة العمليات الروسية في أوكرانيا، أما نايجل فاراج، عراب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد ندم على توقعاته بأن روسيا لن تشن هجوما على جارتها الغربية.

الزعيم الإيطالي اليميني ماتيو سالفيني الذي ارتدى يوماً قميصا عليه صورة بوتين، وجد نفسه أيضا مضطرا لاتخاذ موقف. وأعلن دعمه لإجراءات رئيس الوزراء الموالي لحلف شمال الأطلسي ماريو دراغي في الشأن الأوكراني، فانضم دراغي إلى قائمة المستفيدين سياسيا من النقمة الأوروبية على الروس.

ألمانيا أيضا قطفت منافع الحرب الأوكرانية، فقد تهمشت كل القضايا التي كانت ستواجه الائتلاف الحكومي حديث العهد. كما تلاشى التباين في المواقف والتوجهات بشأن روسيا بين المستشار ورئيس الحزب الاشتراكي أولاف شولتس ووزيرة خارجيته وزعيمة حزب الخضر أنالينا بيربوك، فأصبحا كليهما معارضا لموسكو وزعيمها.

بسبب الحرب الأوكرانية استطاعت الحكومة الألمانية أيضا أن تقرر ضخ مئة مليار دولار لتطوير جيش البلاد وقواته المسلحة دون أي اعتراضات سياسية أو شعبية. فالحرب “تهدد” ألمانيا كغيرها من الدول الأوروبية، وقد بات لزاما على الجميع الاستعداد لما هو أسوأ، أو للحرب العالمية الثالثة التي بات الروس يتحدثون عن احتمالاتها.

حتى الصين، حليفة روسيا وداعمتها في مواجهة التمدد الأمريكي على القارتين الأوروبية والآسيوية، استغلت الحرب الأوكرانية في فتح قنوات مفاوضات مع الولايات المتحدة. فواشنطن لا تريد أبداً أن تقف بكين إلى جانب موسكو في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية، ولكن الحياد بالنسبة للصينيين في هذه الحرب ليس مجاناً.

ثمة كثير من دول العالم أيضا استغلت الفرصة لإظهار التأييد لروسيا أو الغرب في الحرب الأوكرانية، فهذه الحرب فرصة لا تعوض أبدا في تعزيز العلاقات مع موسكو أو واشنطن، وربما تكون فرصة للحصول على تنازلات في ملفات خلافية مع أي منهما، ومصائب قوم عند قوم فوائد كما يقولون.

أكثر دول المنطقة مرشحة للاستفادة من الحرب هي تركيا. فهي عضو في الناتو يقدم الدعم العسكري لأوكرانيا، وفي ذات الوقت تربطه علاقات جيدة مع روسيا. لن يفوت الرئيس رجب طيب أردوغان مثل هذه الفرصة للتقارب مع الولايات المتحدة من جهة، وتسوية خلافاته مع روسيا في الملف السوري على الأقل، من جهة أخرى.

ثمة مثل روسي يقول “لا تعلق كل شيء بمسمار واحد”. قد يكون الرئيس فلاديمير بوتين رهن كل ما فعله منذ وصوله للسلطة قبل أكثر من عقدين بحرب أوكرانيا. ولكن الحرب لم تنته بعد، وربما تمتد لسنوات طويلة كما يتوقع كثير من مسؤولي وقادة الغرب، فما يبدو اليوم من مكاسب ربما ينقلب خسائر لاحقا، والعبرة في النهايات كما يقال.

 

 

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى