تخطو الإمارات نحو يومها الوطني الخمسين برؤية هي الوحيدة التي تصلح للخمسين عاما التالية.
عندما تكون التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي العمود الفقري لتوجيه الموارد والسياسات والأدوار، فإن الناظر إليها، يستطيع أن يدرك كم أن التفاصيل الفرعية تظل في مكانها كتفاصيل، فلا يطغى فيها شيء على شيء. ولا تحيد البصيرة عما يجدر الأخذ به.
هناك موقعان للنظر في صناعة استراتيجيات المستقبل. الأول، من فوق، حيث تكتمل الصورة، ويمكن استجلاء أفقها البعيد. والثاني من تحت، حيث تزدحم التفاصيل وتتصادم، وتنخرط فيها عوامل تأثير متضاربة.
ولكي تخرج برؤية ذات طبيعة راسخة، فإن المُخطِّط الاستراتيجي يحتاج إلى أن ينظر، في آن، للشيء نفسه، من مكانين.
هذا عمل مؤسسي طبعا. إلا أنه الوحيد الذي يوفر القدرة على اتخاذ قرار ذي طبيعة مستقبلية أكثر قابلية على الصمود أمام عاتيات الأيام.
عندما اختارت الإمارات أن تأخذ بمسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فقد جاز لها أن تبني اقتصادا حيويا لا يتوقف على مصدر واحد، ومجتمعا قائما على أسس الاعتدال وبناء ركائز المعرفة والنضج الأخلاقي، من جهة، وأن تشق الطريق إلى المريخ، ليس فقط من أجل أن تضع بصمة خاصة بها في العلم والاكتشاف، ولكن أيضا من أجل القول: “نحن نبني ركائز”.
وثمة ركائز يتم بناؤها في كل مجال. فتُشق لها الطرق، وتُوفر لها المستلزمات، ليس من أجل منافعها المباشرة، ولكن بالدرجة الأولى لأجل منافعها كركائز، مما يمكن البناء عليه، وتنميته.
وهذا عمل وضع أسسه الأولى الشيخ زايد بن سلطان آلِ نهيان، طيّب الله ثراه، وعلى هديه سارت قيادة البلاد حاليا، حتى لكأنها تُسدي له الشكر بالوفاء. وهو ما تحول إلى فلسفة حياة، تنظر إلى العمران الاجتماعي والاقتصادي على أنه هو الركيزة التي يجدر أن تُسخّر لها الإمكانيات والأدوار. وهي فلسفة تنظر إلى كل عمل من نهاياته، ومن فوق، دون أن تتجاهل النظر إلى اختلاطات التفاصيل فيه وتصادمها أحيانا.
والإمارات التي ظلت تبني لنفسها، صار بوسعها أن تبني لغيرها أيضا.
يوم كانت مصر على شفير الهاوية، تحت سلطة الإخوان، لم تجد إلا السعودية والإمارات لتهبَّا لنجدة التغيير. وها هي مصر اليوم تمضي في طريق النجاح والاستقرار. وتضيف لنفسها كل يوم نجاحا. ومن مشروع تنموي كبير إلى آخر، تبدو مصر اليوم عزيزة وتقف على قدمين ثابتتين في مواجهة المستقبل.
وهذا ما قدم معنى جديدا للأخوة وللتضامن. وهو ما قدم معنى جديدا أيضا للدور السياسي الإقليمي للإمارات. وهو نفسه المعنى الذي دفع الإمارات إلى أن تشق الطريق إلى دمشق. فهناك شعب، وهناك مستقبل، وهناك تغيير يسعى له السوريون بأنفسهم. ويوما ما سوف يعثرون على السبيل إليه.
التنمية يمكن أن تكون جسرا عابرا للسياسات. كما يمكن أن تخوض في تفاصيلها ونزاعاتها. ولكن الأولى أكثر دواما من الثانية، وأقل عرضة للصدمات، لأنها اختارت، في الأصل، أن تعبر من فوقها، بدلا من أن تغرق فيها أو أن تكون ضحية لها. فما يمكن أن يُبنى بأفق المستقبل، يدوم ويبقى. وعندما تكون التنمية هي الهدف، فإن إقالة شعب شقيق من العثرة هي الوجه الأفضل للتضامن.
لا تريد الإمارات الخوض في نزاعات، لأنها تجرها إلى ما لا يتوافق مع رؤيتها. ومن ثم فلا عداوات، ولا تحريض أحد على أحد، ولا غرائز تغلبُ على العقل في الخطاب السياسي.
تبني الإمارات لنفسها وفي كل مكان. وهذا دور لو كانت القوى الإقليمية الأخرى قد اتخذته منهجا، لما بلغت الأوضاع في المنطقة ما نراه من تدهور وأعمال تخريب وتناحرات.
فلسفة البناء والتنمية تنظر إلى الأفق، نظرتها إلى الواقع، ولكن دون أن تكون طرفا في تنازعاته. وإذا اقتضت الأمور خيارا، فالخير هو الخيار. وهذه مما يحتاج إلى بصيرة تذهب مسافةً أبعد مما يمكن للبصر أن يبلغه.
“زايد الخير”، لقبٌ لم يكسبه الشيخ زايد، رحمه الله، بمحض المديح أو المحبة. كسبه لأنه اختار أن يقدم الخير على سواه في كل عمل قام به. وكسبته الإمارات كمنهج وميراث، وبَنتْ عليه ما يجدر أن يكون هو البناء، حتى لأصبح رؤيةً، هي الوحيدة التي تصلحُ خمسيناً بعد أخرى.