سياسة

معركة الوقت مع إيران

ويقول لصحيفة فايننشال تايمز إنه عالق في وظيفته مقابل راتب لم تعد تصل قيمته لألف دولار بسبب انهيار الليرة، وهو عاجز عن مغادرة كرسي السلطة أو تحريك حجر واحد على رقعة الأزمة.

كلما قرأت سطراً في رثاء دياب لنفسه، تشفق على حاله لأنه يعكس واقع البلاد بأكملها بعد أن باتت مستلبة لحزب الله، الذي يرتهن بدوره لإرادة طهران ونظامها القلق مما قد تحمله الأشهر المقبلة من تغيرات داخل إيران أو في الخارج العربي والدولي.

لم يعد خافيا ذلك الدور التعطيلي الذي يمارسه “حزب إيران” في تشكيل الحكومة اللبنانية، وبالتالي في إنهاء أزمة دولة باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الاقتصادي. والغاية فقط هي إبقاء لبنان ورقة ضغط بيد طهران تفاوض بها الأمريكيين والأوروبيين لإعادة إحياء الاتفاق النووي معها، أو تخفيف العقوبات الاقتصادية عنها. وحال لبنان في هذا يشبه حال العراق وسوريا واليمن، فكل هذه الدول التي يهمين عليها الإيرانيون يجب أن تبقى أزماتها مفتوحة إلى حين انتهاء معركة كسر العظام بين طهران والعالم.

الدور الذي تلعبه مليشيات الحوثي في عرقلة وقف الحرب وإحياء عملية السلام في اليمن، يشبه العمل الذي يمارسه حزب الله في لبنان بتعطيل تشكيل الحكومة. وهو ذاته ما تقوم به مليشيات الحرس الثوري في العراق وسوريا عبر تغليب صوت القوة على العقل وإضعاف فرص التغيير السياسي والاقتصادي. تختلف الأدوات والطرق ولكن المهمة واحدة، ولأجل هذا التخريب والتعطيل صنعت طهران هذه المليشيات في الدول العربية الأربع، وزودتها بالمال والسلاح والمرتزقة حتى تحولت إلى دول داخل دول.

كلمة السر في المعركة مع إيران هي الوقت. فإلى متى يمكن لنظام طهران أن يمنع التغيير داخل إيران وفي الدول العربية الأربع؟ إلى متى يمكن للإيرانيين مواصلة تطوير برنامجهم النووي سراً حتى يحصلوا على قنبلة نووية؟ وإلى متى ستنتظر أمريكا “تعقل” الإيرانيين وعودتهم طوعاً إلى بنود الاتفاق المبرم عام 2015؟ إلى متى ستبقى هي ودول الغرب، تغمض أعينها عن حقيقة أن نظام الولي الفقيه لا يمكنه إصلاح نفسه، كما لا يمكنه تحويل إيران إلى دولة تتفاخر بالديمقراطية بدل المشانق والموت والإرهاب.

في الواقع، ينفد الوقت لكل هذه الانتظارات. وتستعد كل الأطراف إلى خيارات ما بعد ذلك، أو على الأقل تظن نفسها تفعل. التصريحات الصادرة عن إيران وخصومها تدعي المرونة والرغبة في حلحلة الأزمات العالقة، ولكن بين السطور تفوح رائحة التحذيرات والتهديدات المتبادلة. لم يعد لأي طرف ثقة بالآخر، كما لم يعد لديه رغبة في تقديم التنازلات مهما بدت صغيرة. حتى بات الرهان على أحد أمرين؛ أن يفرض طرف تحريك المياه الراكدة بفعل مقصود، أو يحدث ما يفاجئ الجميع ويقلب الطاولة وأوراقها.

على ضفة طهران يحاول نظامها الاستعداد لكل الاحتمالات. أكثر ما يقلقه داخلياً هو عودة الاحتجاجات إلى الشوارع، لذلك أُعلن عن تأسيس لجنة لـ”ضمان الأمن” في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة تداعيات الجائحة والعقوبات الدولية المفروضة على إيران. خاصة أن التظاهرات النقابية والعمالية تزداد وتيرتها مؤخراً في مختلف المحافظات. هو يظن نفسه استعد كفاية لهذه العودة، ولكن مؤشرات عديدة تقول إن إخماد الانتفاضة الشعبية هذه المرة لن يكون كسابقاتها، ولن يكون التعتيم على ما يجري هيناً.

بدرجة أقل من التظاهرات والاحتجاجات، يخشى نظام إيران استهداف مصانعه ومنشآته النووية. لذلك هو يعزز من احتياطاته ويصعد من لهجة تهديده ووعيده، رغم أنه يعلم أن ذلك لن يكون مقلقاً بالنسبة للدول التي تستطيع اختراق منظومته الأمنية، حيث لم تحمِ “مدن الصواريخ تحت الأرض” مهندس المشروع النووي محسن فخري زادة من الاغتيال، كما لم تحل تهديدات خامنئي دون استهدف منشأة نطنز النووية عام 2020، ولم تمنع أيضاً حريق ميناء بوشهر ولا تفجير مجمع خوجير الصاروخي قبل ذلك بأشهر فقط.

خارجياً، يشعر النظام الإيراني بقلق متزايد على نفوذه في المنطقة العربية، وكرد فعل يأمر أذرعه ومليشياته بالتصعيد في وجه كل من يحاول المساس بهذا النفوذ. المشكلة أن أذرعه باتت تواجه رفضاً شعبياً متزايداً يدعمه خصوم طهران في الغرب والشرق، ليس بتسليح المتظاهرين ولا بالتحريض على العنف، وإنما بمواقف سياسية واقتصادية تضيق الخناق على نظام طهران، وتقطع الطريق أمام محاولات مليشياته الالتفاف على مطالب شعوب دول المنطقة في تحرير بلادهم من أي وصاية إيرانية أو أجنبية أيا كانت.

ما تفعله الولايات المتحدة والدول الأوروبية في لبنان والعراق وسوريا واليمن يعكس ذلك صراحة. وكذلك ما تفعله عدة دول في المنطقة تعمل على إعادة الدول الأربع إلى حاضنتها العربية عبر بوابات الاقتصاد أولاً. قد تبدو هذه الجهود حلولاً طويلة الأجل وتضعف مع الوقت، ولكن الحقيقة هي أن وتيرة تأثيرها تتسارع بشكل ملحوظ لأنها تبدو منسجمة ومتسقة ضمن قناعة واحدة ترسخت لدى الجميع، وهي أن نظام طهران لم يكن يوماً حمامة سلام، وتمدده خارج الحدود لم يكن لأي غرض يخدم أمن المنطقة والعالم.

قد تدفع هذه الجهود بإيران لإشعال مزيد من الحروب عبر مليشياتها في المنطقة، وهو احتمال يضعه الجميع باعتباره، خاصة إذا ما وصل المتشددون في طهران إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية خلال شهر يونيو/حزيران المقبل. لكن هل ستنقذ هذه الحروب نظام إيران من محنته، أم تزيدها تعقيداً؟ يجب أن يسأل رموز النظام أنفسهم على مَن وعلى ماذا سيعولون في هذه الحروب، إن تداعت ظروف المعيشة داخل إيران والدول التي تهيمن عليها، إلى قاع يستنهض ضدهم من تبقى من المخدوعين بـ”الثورة الإسلامية”؟

من يدري، ربما يسعى قادة طهران إلى حتفهم السياسي بأرجلهم، فنجد حالهم بعد أشهر كرئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان اليوم، ولسان حاله يردد ما نصح به يوماً الأديب والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو: “الثقة الزائدة تصبح غروراً، والمديح الزائد يصبح نفاقاً، والتفاؤل الزائد يصبح سذاجة”.

ولقائه الرئيس ميشال عون.

كان لقاء الحريري الأول يوم 18 مارس هو اللقاء السابع عشر بين الرجلين منذ تكليفه بمهمة تشكيل الوزارة في 23 أكتوبر 2020، واختلافهما حول هذا التشكيل. انعقد هذا الاجتماع بعد أيام عاصفة وملبَّدة بالغيوم، اتَّهم فيها رئيس الجمهورية الحريري بالكذب، في مقطع مسجَّل تم تسريبه، وأنه ما دام لا يستطيع تشكيل الوزارة فإن عليه أن يعتذر رسمياً عن هذه المهمة. وردَّ الحريري ببيانٍ غاضبٍ اتَّهم فيه عون بتعطيل تشكيل الوزارة، وطالبه بدوره بالاستقالة والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.

لم يكن من شأن هذا الاجتماع إحداث تغيير على حالة الجمود السياسي التي يعيشها لبنان باستثناء أنه فتح الباب لعودة الاتصالات المباشرة بين الرجلين والتي سُرعان ما دخلت في طريقٍ مسدود بعد الاجتماع الثاني الذي عُقد في 22 مارس، وصرَّح بعده الحريري بأن الرئيس يريد أن يفرض عليه رؤيته الخاصة للتشكيل، وهو ما يرفضه تماماً. وردَّت الرئاسة بأن تصريحات الحريري مُخالفة للحقيقة.

والمشكلة أنه لا توجد آلية في الدستور اللبناني لحل هذا الخلاف، فهو ينص بوضوح على أن تشكيل الوزارة يتم بالتشاور بين الرئيس ورئيس الوزراء المكلَّف، وأن قرار التشكيل يجب أن يُصدِّق عليه الرئيس. ويزيد الأمر صعوبة أن الرئيس لا يستطيع أن يسحب التكليف من رئيس الوزراء الذي تم تكليفه. والنتيجة أن أزمة التشكيل الوزاري في ظل احترام قواعد الدستور سوف تظل مستمرة ما لم يصل الحريري وعون إلى اتفاق بينهما.

والقضايا محل الخلاف معروفة، وجوهرها هل تتكون الوزارة من خبراء واختصاصيين أكفاء يختارهم رئيس الوزراء مع الأخذ في الاعتبار التمثيل الطائفي والمذهبي وهو الرأي الذي يتمسك به الحريري، أم أن يتم الاختيار وفقاً لترشيحات الأحزاب والكتل السياسية بدعوى أن وزارة خبراء واختصاصيين لن تكون لها قوة سياسية تذكر، ولن تتمكن من اتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلبها مواجهة الوضع المتدهور في البلاد، وهو الرأي الذي يتبناه عون وحليفه “حزب الله”.

وتتمثل وجهة نظر الحريري في أنه يقوم بتنفيذ خطة العمل التي وافق عليها رؤساء جميع الأحزاب والكتل، بما في ذلك رئيس الجمهورية وحزب الله مع الرئيس الفرنسي ماكرون، وأن هذه الخطة هي الوحيدة التي تضمن خروج لبنان من أزمته الطاحنة، لأنها سوف تقيم وزارة على أساس الكفاءة والجدارة، وأنه لن يكون فيها “الثلث المعطِّل”، أي أن يتم تعيين ثلث عدد الوزراء من المخالفين لتوجه رئيس الوزراء، مما يمكِّنهم من تعطيل أعمال الحكومة وقراراتها. وأنها تستجيب لتوقعات أصدقاء لبنان من دول عربية وأجنبية والتي ربطت تقديم مساعداتها الاقتصادية بتنفيذ هذه الخطة، وهو نفس الموقف الذي اتخذه صندوق النقد الدولي.

تستمر هذه التجاذبات في وقتٍ يشهد فيه اللبنانيون انهياراً مروعاً في مستوى معيشتهم، خاصة مع وصول سعر صرف العملة اللبنانية إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن عاش لبنان لسنوات طويلة استقر فيها سعر الصرف على 1500 ليرة للدولار الواحد! ما أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم، والتي بلغت 85% في 2020، وازدياد أسعار السلع الأساسية ومنها الخبز الذي رفعت وزارة الاقتصاد والتجارة ثمنه هذا الأسبوع للمرة الثالثة منذ يونيو 2020 وكذلك اللحوم والوقود والمحروقات، واختفاء كثير من أدوية الأمراض المزمنة، وانتشار المشاجرات اليومية في المجمعات التي تبيع السلع الغذائية المدعومة من الدولة. وأغلق كثير من المحال والمتاجر أبوابها، ما ترتب عليه ازدياد نسبة المتعطلين إلى 32% حسب البيانات الرسمية في ديسمبر 2020. وتستفحل الأزمة الاقتصادية بإعلان الحكومة توقف لبنان عن دفع أقساط ديونه وتوجيهها البنك المركزي بعدم استخدام موارده المالية لمساعدة الليرة على الاحتفاظ بقيمتها.

رافق ذلك انهيار مماثل في القطاع الصحي وقدرة المستشفيات العامة والخاصة على التعامل مع المصابين بفيروس كورونا الذين بلغ متوسط عددهم في شهر مارس الجاري 3 آلاف مصاب يومياً. واستغل تنظيم داعش هذه الأوضاع للتغلغل وإنشاء خلايا له كما كشفت عن ذلك إدارة المخابرات الحربية في نفس الشهر.

كان من شأن كل ذلك شيوع حالة من الإحباط واليأس والغضب بين عموم الناس. مشاعر الإحباط بسبب عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة، خصوصاً الأطفال والرضع وكبار السن، واليأس بسبب عدم وجود بدائل أو آفاق لتغيير الوضع الراهن، والغضب تجاه النخبة الحاكمة التي أدت سياساتها الاقتصادية والاجتماعية إلى هذا الوضع البائس، وبسبب استمرارها في مناورات الاستحواذ على السلطة وعدم اكتراثها بما وصل إليه حال اللبنانيين.

أدى هذا إلى انفجارات اجتماعية ظهرت في شكل مظاهرات شعبية عمت أرجاء البلاد وشارك فيها الناس كمواطنين تحت علم لبنان وليس في ظل أي راية طائفية أو مذهبية. وظهرت أيضاً في خروج مظاهرات أو قطع للطرق في مناطق خاضعة لنفوذ حزب الله بما في ذلك الضاحية الجنوبية في بيروت ومدينة بعلبك وغيرها من مناطق نفوذ الحزب في سابقة غير معهودة. مما يعني تراجع نفوذ الحزب وعدم سيطرته على الموالين له.

وما زالت الأزمة اللبنانية مستمرة.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى