مسلمو أوروبا بين التطرف الإسلاموفوبي وعنف الجماعات الإسلاموية
منذ بضعة عقود فقط، كانت أغلب النقاشات المجتمعية التي تثير تفاعل النخبة السياسية والفكرية والإعلامية في الساحة الأوروبية، ذات الصلة بالمسلمين هناك، تدور حول العناوين التالية: “مشاكل المهاجرين العرب”، “أزمة المغاربيين”؛ “أزمة إدماج الجاليات العربية” وعناوين من هذه الطينة، بحيث كانت الإحالة على تدين الجاليات العربية الإسلامية، نادرة.
واضح أنّ الأمر يتعلق بمهاجرين مسلمين، ونتحدث، على سبيل المثال لا الحصر، عن أوضاع المهاجرين العربي في بعض دول أوروبا الغربية، وخاصة في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا.
ما الذي جرى حتى أصبحت القضايا ذاتها تتحدث فجأة عن الإسلام والإسلاموية، وأصبحت أهم قضايا الجالية والمهاجرين العرب وبدرجة أقل الأمازيغ والأفارقة، وأغلبهم من المسلمين، تتحدث عن عنف الإسلاموية، [أو “التطرف العنيف” حسب الاصطلاح الرسمي الذي اعتمدته هيئة الأمم المتحدة”] أو غيرها من العناوين التي لا تخرج عن الإحالة الصريحة على الدين [الإسلام] والتديّن [الإسلاموية]؟
موازاة مع ذلك، عاينا ارتفاع أسهم ظاهرة الإسلاموفوبيا، فبينما كانت الظاهرة متواضعة التناول والمتابعة؛ لأنها كانت أقلية أساساً، ومباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، سوف ترتفع أسهمها؛ فالأحرى في المرحلة اللاحقة والحالية.
تحيلنا هذه التحولات المجتمعية التي تطال حضور الإسلام والمسلمين في أوروبا الغربية، على ارتفاع أسهم ظاهرة الإسلاموية من جهة، وظاهرة الإسلاموفوبيا من جهة ثانية.
تروم هذه المقالة الأولية، التوقف عند بعض القواسم المشتركة بين الظاهرتين، ولأن الأمر يتعلق بمجموعة من القواسم، فسوف نقتصر على قاسمين اثنين على الأقل:
1 ــ هناك أولاً قاسم النهل من عقل اختزالي أو جهاز مفاهيمي، يختزل الواقع في ثنائية الأبيض والأسود، وهو جهاز مفاهيمي ضيق الأفق والنظر، على غرار ما عاينا منذ عقدين تقريباً مع ثنائية “أنتم معنا أو مع الإرهاب” بتعبير جورج بوش الابن، أو ثنائية “فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر” بتعبير أسامة بن لادن، وهي الثنائيات الشهيرة التي تسببت للعالم بأسره، وليس للمسلمين والأمريكيين وحسب، في ما اصطلح عليه الراحل إدوارد سعيد بـ”صدام الجهالات”.
وما هو مؤكد في الحالة الأوروبية، أننا لا زلنا نعيش بعض تطبيقات “صدام الجهالات” مع تيارين اثنين بالتحديد: التيار الإسلاموفوبي؛ أي التيار الأوروبي الذي يُعادي الإسلام والمسلمين، والتيار الإسلاموي؛ أي مختلف الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية والقتالية؛ لأنهما ينهلان من عقل اختزالي في التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين هناك، فالإسلاموية لا زالت مؤمنة هناك بخيار “اختطاف الدين”، ولا يزال العديد من أتباعها، وخاصة أتباع المرجعية الإخوانية، يمارسون التقية في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني؛ أما الإسلاموفوبيا، فلا تزال تتعامل مع المسلمين كافة كأنهم كتلة واحدة، لا فرق فيها بين المسلم والإسلامي، بين المسلم الذي يبحث عن الكرامة والعدل والعيش الكريم، وبين الإسلامي الذي همه “دولة الخلافة” أو “تطبيق الشريعة” و”تطبيق الحدود”.
2 ــ من بين القواسم المشتركة التي تميز العقل الإسلاموفوبي والعقل الإسلامي، نجد ذلك النهل الصريح من عقلية المؤامرة.
نحن لا نزعم أنّ المسلمين والأوروبيين مثلاً، غير معنيين بهذا العقل، ولكن مكمن الفرق الرئيسي بين حضور هاجس المؤامرة عند المسلمين والأوروبيين من جهة، والإسلاميين والإسلاموفوبيين من جهة ثانية، يوجد في مؤشر المؤامرة. إذا افترضنا أنه لدينا جهاز لقياس مؤشر المؤامرة، على غرار مقياس ريختر لقياس درجة الزلزال الأرض مثلاً، سوف نجد أنّ مؤشر المؤامرة عند العقل الإسلاموفوبي والعقل الإسلاموي مرتفع بشكل لا يُضاهى مقارنة مع مؤشر المؤامرة عند المسلمين والأوروبيين.
ولنا الآن أن نستحضر تبعات هذا الفارق في تفاعل المسلم أو الإسلاموي من جهة، والأوروبي والإسلاموفوبي من جهة ثانية، مع قضايا الساحة، وخاصة القضايا المرتبطة بالدين والسياسة والاجتماع، ولأن الأدبيات الإسلاموية كما هو معلوم تعج بهذه الخطاب؛ فالأمر سيان مع الأدبيات الإسلاموفوبية، وآخرها مضامين كتاب حديث الإصدار في الساحة الفرنسية، بعنوان “الإسلام وغزو الغرب: كشف الاستراتيجية” (صدر في أواخر 2018)، حيث يُؤسّس مؤلفه، الكاتب والسياسي جان فرانسوا بواسون، الخيط الناظم للكتاب على فرضية مفادها أنّ العالم الإسلامي مصاب بهوس غزو الغرب، وأنّ جميع الدول الإسلامية، متحالفة ومتفقة على هذه الاستراتيجية، انطلاقاً من وثيقة صادرة عن منظمة “الإيسيسكو”، ومؤرخة في عام 2000 حول العمل الثقافي الإسلامي، كما لو أنه منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، لن نُعاين أي تحولات طالت أداء الدول العربية فالأحرى دول العالم الإسلامي، وهذه مغالطة منهجية ومعرفية في آن، سوف نتوقف عندها في مقال لاحق، على هامش عرض أهم مضامين الكتاب.
ليس صدفة أنّ الباحثة الدنماركية، شيرين خانكان، كانت واعية بأهمية التصدي لهذين المشروعين هناك في الساحة الأوروبية، وليس صدفة أيضاً، أنّ أتباع العقل الإسلاموفوبي والعقل الإسلامي، يعادون الباحثة؛ لأنها كانت صريحة في كتابها “المرأة مستقبل الإسلام”، عندما وجهت انتقادات ضد الأقلام الإسلاموفوبيا في أوروبا، وضد أقلام الإسلاموية، معتبرة أنهما وجهان لعملة واحدة، قائلة: “سوف نأخذ الكلمة، ونقلب الطاولة على خطاب الكراهية الذي يحتكر الحقيقة، ومُروج الأحكام والوصاية كما لو كان وزارة العقيدة، ضد المجتمع، عبر توزيع صكوك الحُسن والقبح على المسلمين”.
وليس صدفة أيضاً أنّ الخطاب الإسلاموفوبي يُغذي الخطاب الإسلاموي والعكس صحيح، بما يُحيلنا على الإشارة التي افتتحنا بها هذه المقالة، وتهم التحولات التي جعلت الإعلام الأوروبي ينتقل من الحديث عن “مشاكل العرب والمهاجرين” نحو “مشاكل الإسلام والإسلاموية”.
إذا تركنا مجموعة مُحددات أوروبية (سياسية واجتماعية واقتصادية على الخصوص)، تغذي الظاهرة الإسلاموفوبية، ولا علاقة للمسلمين الأوروبيين بها؛ لأنها مسؤولية صناع القرار في القارة الأوروبية، فإن مسؤولية بعض المسلمين، في المُحدد الديني، والتي كانت مُجسدة في مسؤولية الإسلاموية دون سواها، أفضت إلى تغذيته الظاهرة الإسلاموفوبية من خلال القلاقل الصادرة عن المحدد سالف الذكر، وواضح أننا نتحدث عن قلاقل لم نكن نُعاينها مع الجيل الأول والجيل الثاني للمسلمين المهاجرين إلى أوروبا الغربية، ولكن مع أولى محطات الحضور الإسلامي الحركي، أصبح المواطن الأوربي يُعاين فجأة قضايا وأزمات كنا في غنى عنها جميعاً، وجاءت ذروتها كما هو معلوم مع الاعتداءات التي طالت العديد من الدول الأوروبية باسم الإسلام، حسب ما روجته وسائل الإعلام، مع أنها اعتداءات صادرة عن الإسلاموية في نسختها القتالية أو “الجهادية”.
بالنتيجة، يبدو العقل الإسلامي اليوم في القارة الأوروبية، محاصراً بين تطرفين اثنين على الأقل: تطرف إسلاموي محسوب على المسلمين، وتطرف إسلاموفوبي محسوب على الأوروبيين، ولكي يُواجه هذا التحدي المستجد، الذي يهم العقل الإسلامي الجمعي، من طنجة إلى جاركارتا، وليس عقل المسلمين في أوروبا وحسب، يحتاج هذا العقل الجمعي إلى تغذية جاهزيته المعرفية والروحية، وهذه مسؤولية الجميع.
نقلا عن حفريات