سياسة

ما بعد قاسم سليماني وما قبله.. هذا ما حصل


أنهت إيران انتقامها “القاسي” لمقتل الجنرال قاسم سليماني كان الرجل عنوان مرحلة في التاريخ الإيراني امتدت لأكثر من ربع قرن. تربّع قائد “فيلق القدس” على قمة هرم المشروع الجيوسياسي الإيراني. وتمكّن بالفعل من أن يبسط سيطرة إيران في مناطق عدة. لم يكن سليماني مهندس الميليشيات فحسب، بل كان أيضاً مهندس الصفقات المعقدة. في تموز (أغسطس) 2015، أجرى سليماني زيارة إلى موسكو أثارت جدلاً عالمياً. قيل إنّ الجنرال الذي حمل معه خرائط سوريا، نجح في إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بالتدخل عسكرياً لإنقاذ نظام بشار الأسد. كان ذلك بلا شك الإنجاز الأهم في سجلّ سليماني. اعترضت واشنطن بقوة على الزيارة. فهي تدرك أنّ مثل سليماني لا يحضر إلى موسكو إلّا لأمر جلل.

كانت واشنطن تعرف سليماني عن قرب. في الحقيقة كان سليماني هو من بادر إلى تقديم نفسه للأمريكيين؛ في مطلع عام 2008 أرسل رسالة إلى الجنرال ديفيد بترايوس الذي كان قائداً للقوات الأمريكية في العراق على هاتفه الشخصي، يقول فيها: “اعلم أنّني أنا قاسم سليماني المتحكم في السياسة الإيرانية المتعلقة بالعراق ولبنان وغزة وأفغانستان. وأنّ السفير الإيراني لدى بغداد عنصر من عناصر “فيلق القدس”، والسفير الذي سيحل محله عنصر أيضاً”.  أطلقت هذه الرسالة مساراً سريّاً للمفاوضات بين سليماني والمسؤولين الأمريكيين حول العراق. وبعد سنتين، تمكّن سليماني من إقناع الولايات المتحدة بتعطيل قيام حكومة وطنية في العراق، على الرغم من الفوز الساحق لكتلة القائمة العراقية/إياد علاوي في الانتخابات البرلمانية لعام 2010. وجرى الاتفاق على إعادة رجل إيران في العراق، نوري المالكي رئيساً للوزراء، على الرغم من خسارة كتلته “ائتلاف القانون” في الانتخابات.

خاض سليماني حروباً كثيرة على امتداد الخرائط العراقية والسورية وصولاً إلى جنوب لبنان كان أكبر فشل لازم الرجل هو عجزه عن تجاوز عقدة الانتقام من صدام حسين؛ وهي العقدة التي دفعته لارتكابات ومجازر عديدة، مثل؛ مذابح جرف الصخر والفلوجة والحويجة وغيرها التي دمرت صورة المشروع الإيراني عند سُنّة العراق وشيعته على السواء. هذا الانتقام البشع، وما نتج عنه من فضح الصورة الحقيقة للمشروع التدميري الإيراني، حرم سليماني لاحقاً من استكمال بناء حلمه الكبير المتمثل في خط طهران-بيروت.

في سوريا كان سليماني أيضاً مهندس المسارات الموازية، والارتكابات البشعة، والميليشيات متعددة الجنسيات. خاض الكثير من الحروب القذرة، وأنجز الكثير من صفقات الاستسلام بعد محاصرة السكان المحليين لأسابيع وشهور وأحياناً سنوات عدة. كرّس سليماني وقتاً طويلاً لإنشاء وتدريب “قوات الدفاع الوطني” لتكون مساراً موازياً وبديلاً حاضراً عن الجيش السوري. كان لمناطق شرق الفرات في سوريا أولوية خاصة في أجندة سليماني. صحيحٌ أن دير الزور والبوكمال، لهما بعد رمزي مذهبي عند سليماني، لكن هذه نصف الحكاية فقط؛ فهذا المعبر هو الأهم في طريق طهران-بيروت الذي قطعه الأمريكيون بخبث ودهاء في قاعدة التنف. لم تكن تلك العقبة هي الوحيدة على ذلك الطريق (الحلم) الشاق والطويل.

فخلال الربع الأخير من العام 2019، شكّلت الاحتجاجات الشعبية في العراق، ولبنان انتكاسة حقيقية للسياسات الإيرانية في البلدين. وتزايدت الشكوك بشأن مستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام. وتمثّل ردّ الفعل الرسمي الإيراني بأنّ القوى الأجنبية (أي الولايات المتحدة، وحلفاءها الإقليميين) هي التي تقف وراء الاضطرابات. لذلك دعت طهران وكلاءها في هذه البلدان إلى قمع الاحتجاجات صراحةً، وترددت أنباء عن مشاركة مباشرة من بعض قيادات “فيلق القدس” في الإشراف على عمليات القمع والتنكيل.

باتت الخيارات محدودة جداً على طاولة سليماني نتيجة صمود المتظاهرين وإصرارهم. تعذّر عليه الإمعان في قمع المتظاهرين والتنكيل بهم هذه المرة كما فعل في سوريا، فجلُّهم من الشبان الشيعة الذين ضاق بهم الحال إلى أن ثاروا ضد سوء إدارة الوكلاء الإيرانيين وفسادهم. ولم يكن حال “حزب الله” في لبنان بأفضل من حال الميليشيات في العراق. تسّرب الخوف إلى قلب الجنرال من أن ينهار كل ما بناه خلال ربع قرن. طوت الاحتجاجات صفحة “النجاحات” الإيرانية، وأطلقت مرحلة “الخيبات”.

في هذه الأثناء كانت “سياسة الضغوط القصوى” الأمريكية على إيران بلغت مرحلة متقدمة جداً. وبدأت تلوح في الأفق علامات حقيقية على إمكانية تصفير صادرات النفط الإيرانية فعلًا. والأنكى أنّ الرئيس دونالد ترمب الذي يقود هذه الحملة، تجاوز معظم العراقيل التي يمكن أن تمنع إقامةً جديدةً له في البيت الأبيض بعد 2020. قرّر سليماني أن الوقت قد حان للرقص مع “الشيطان الأكبر”. أراد مُنازلة جديّة مع ترمب. قامت حسابات الجنرال على أساس أنّ سيد البيت الأبيض لن يرغب في خوض صراع عسكري على مشارف الانتخابات الرئاسية، فقاد حملة استفزازات ممنهجة ضد القوات الأمريكية في العراق مع نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2019 وبداية 2020. تجاوز سليماني الخط الأحمر الأمريكي المتواطأ عليه منذ بدء حملة “الضغوط القصوى” في أيار (مايو) 2018؛ حيث لقي متعاقد أمريكي مصرعه في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2019 ، بسبب هجوم صاروخي على قاعدة عسكرية أمريكية في كركوك.

جاء الردّ الأمريكي سريعاً وقوياً. قُتل 25 مقاتلًا عراقياً، على الأقل، جراء ضربات جوية أمريكية ضد قواعد ميليشيا “كتائب حزب الله” في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2019. عمّت موجة غضب عارمة في أوساط الحشد الشعبي العراقي، وباقي الميليشيات. ولم يستوعب سليماني فحوى الرسالة الأمريكية، فوجّه قادة الميليشيات بالتحرك علناً، لاقتحام السفارة الأمريكية في بغداد. ومع احتفالات العالم بالسنة الجديدة، كانت النيران تشتعل في الأسوار الخارجية للسفارة الأمريكية في بغداد. بعد الهجوم، هدد الرئيس الأمريكي إيران، وأعلنت واشنطن نشر 750 جندياً لحماية السفارة. كان هذا القرار يعني الكثير؛ واشنطن لن تتراجع، لقد قرّرت أن تخوض المواجهة.

في 3 كانون الثاني (يناير) 2020، قُتل قاسم سليماني بضربة جوية أمريكية. استغرق الأمر من النظام الإيراني الكثير من الوقت بعد مقتل سليماني للقبول بأنّ الأمريكيين هم من فعلوا ذلك. فلطالما ظلّت التقديرات في طهران، تؤكد بأنّ كبار المسؤولين من الجانبين، محصنين ضد عمليات الاغتيال. كان هذا هو التقدير الراجح على مدى سنوات في الساحة العراقية. لكنَّ ترامب غير كل شيء فجأة. تعهد القائد الأعلى علي خامنئي بانتقام شديد القسوة من الولايات المتحدة؛ على غير المعتاد، حضر خامنئي شخصياً الجلسة الطارئة التي عقدها “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني يوم عملية الاغتيال. تبين لاحقاً أنّ حضور خامنئي كان للتأكد من عدم الذهاب باتجاه اختبار الرئيس ترمب أكثر، فقد بات مستقبل الجمهورية الإسلامية على المحك. لا شك أنه في مثل هذا الوقت الصعب، يُعَدُّ خامنئي الشخص الأوحد في طهران الذي يمكنه تجنب القيام بعملية انتقام متسرعة. فكّر الإيرانيون قبل كل شيء في البحث عن مسؤولين أمريكيين بارزين عسكريين أو دبلوماسيين لقتلهم. استعرضوا الخيارات في المنطقة وخارجها. الخيارات موجودة، ومتعددة، لكن الإشكالية تكمن في سيناريو اليوم التالي. قرّرت طهران انتظار ظهور نافذة أقل كلفة للرد المتكافئ. والذهاب باتجاه خيارات الحد الأدنى للرد، في إطار “حفظ ماء الوجه”.

ركّز خامنئي في الأيام الأولى على تمجيد سليماني في الداخل؛ كانت الجمهورية الإسلامية التي تفتقر إلى الشعبية بحاجة ماسّة إلى أي جرعة من الشرعية يمكن تحقيقها. بذلت الأجهزة الرسمية كل ما في وسعها لإظهار سليماني على أنّه بطل عظيم، دافع عن الأمة الإيرانية، ومات في سبيلها. طلبت طهران من كل أصدقائها، ووكلائها، وحلفائها في المنطقة والعالم بإلحاح شديد المشاركة في مراسم تشييع جنرالها. وقادت حملات تعبئة غير مسبوقة في الداخل، لضمان أكبر قدر ممكن من المشاركة الشعبية في التشييع. كانت هذه التعبئة مفيدة لتعويض نقص الشرعية، لكنها ضاعفت الضغوط الشعبية على النظام للردّ على الولايات المتحدة بشكل متكافئ.

أعاد الاغتيال مصير الدور الإيراني في المنطقة إلى الواجهة. لا شك أن غياب سليماني سيضعف الشبكات الخفية والمسارات الموازية وحكومات الظل في العراق وسوريا ولبنان. يتعين على صناع القرار في المنطقة والعالم أن يغتنموا الفرصة لتعزيز المؤسسات، وإضعاف فواعل ما دون الدولة التي نسجها صانع السجاد الكرماني عبر جغرافيا المنطقة. الكبار لم يتأخروا في الاستجابة. بادرت روسيا إلى استثمار الموقف بسرعة. حضر الرئيس فلاديمير بوتين بنفسه إلى دمشق ليقطف الثمار؛ لإعادة تعريف العلاقة السورية – الإيرانية بعيدًا عن الحمولات المذهبية والرسالية التي مرّرها سليماني. رأى سيد الكرملين في مقتل سليماني فرصة للتقدم باتجاه حلّ عقدة إعمار سوريا، ودعم عودة اللاجئين، وخروج الميليشيات غير الشرعية، والجيوش الأربعة.

في البيت الأبيض، بدا الرئيس دونالد ترمب مرتاحاً جداً لنتائج المنازلة. حضر مزهواً إلى المؤتمر الصحفي، ومحاطاً بجنرالاته ليعلن السيطرة تماماً على تداعيات اغتيال سليماني. ذهبت انتقادات الديموقراطيين لقرار اغتيال سليماني أدراج الرياح؛ قال خصومه إنّ ترامب لم يطلب أي مشورة من كبار أعضاء الكونغرس قبل تنفيذ الاغتيال الذي يُشبه إعلان حرب. وقالوا إنّ ترامب قرّر بمفرده قتل سليماني دون المرور بعملية صنع السياسة المتعارف عليها في مجلس الأمن القومي. لكنّ هذه الانتقادات صار لها مفعول عكسي اليوم. لقد أثبت ترامب لحلفائه في الخارج، وأنصاره في الداخل، بأنّه ليس نمراً من ورق عندما يتعلق الأمر بإيران، لكنه في نفس الوقت، أبعد شبح حرب بين الولايات المتحدة وإيران من خلال التذكير بقوة الردع الأمريكية.

نقلا عن حفريات

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى