سياسة

ما بعد “الربيع”.. ثورة رمزية هادئة


كان متوقعا لأي باحث موضوعي ومتعمق في تاريخ الأفكار والدول والشعوب مآلات ما سمي الربيع العربي من صراع على الهوية.

تتعطل فيه المواطنة والدولة وتتحلل فيه تلك الأخيرة إلى عناصرها الأولية الدينية والطائفية والعرقية، وأن هكذا حالة ما كان لها إلا أن تؤدي إلى النتائج الكارثية لهذا الربيع من تشريد الملايين ومقتل مئات الآلاف وتدمير دول وعودة أخرى عشرات السنين إلى الوراء على كل المستويات خصوصا الاقتصادية والأمنية منها. لم نستفد من دروس البشرية التي كان من الممكن أن تجنبنا ويلات هذا “الربيع”. يستهدف هذا المقال تسليط الضوء على بعض الدروس التي من الممكن أن نستخلصها من التجربة البشرية، مع التركيز على التجارب الأوروبية والكندية، التي من الممكن الاستفادة منها في فترة ما بعد الربيع، لكي يخرج العالم العربي، أكثر فأكثر، من حروبه الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية وانغلاقه الفكري والاجتماعي والثقافي، لينسج مبادئ تنويره لحريته وحداثته التي تحفظ للدين احترامه بتحريره من احتلال الإسلاموية له، ومن دون أن يزاحم السياسة والعلم والتطور وحقوق الإنسان.

أولا، يمكننا مقارنة الصراعات الطائفية والمذهبية والحروب السياسية والفكرية التي تعيشها الكثير من الدول والمجتمعات العربية في العشرية الثانية، كنتيجة لهذا “الربيع”، بالظروف والصراعات والأحداث الأليمة والحروب الدينية، والتي تعرف أيضًا باسم حروب الإصلاح (والإصلاح المضاد)، التي عاشتها القارة الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، قبل أن تصل إلى الاستقرار الأمني والسياسي والديمقراطية والدولة الحديثة. وعلى غرار الربيع العربي، لم يكن الدين هو السبب الوحيد لاندلاع تلك الحروب، فلقد لعبت بلا شك عوامل أخرى مثل الطموحات الإقليمية، وصراعات القوى العظمى دورا في تلك الحروب. ولقد أجبر ما سمي الربيع عالمنا العربي أن يمر بتلك التجربة الأليمة والدموية التي مرت بها أوروبا.

بعد تلك الحروب الدينية دخلت أوروبا في التنوير بتبني مجموعة من الأفكار، التي كانت بمثابة ثورة رمزية أو بارادايمية، والتي تركز على سيادة العقل والتجريب والمنهج العلمي بوصفه مصدرًا أَسَاسِيًّا للمعرفة، وعلى المثل العليا كالحرية والرقي والتسامح والإخاء والحكومة الدستورية وفصل الكنيسة عن الدولة والحريات الفردية والتسامح الديني. . إلخ. وكان في القلب من كل ذلك معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أرست أسس الدولة القومية ومفاهيم السيادة الوطنية، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية وجعل الولاء لرابطة المواطنة مقدمًا على الولاء للطائفة والمذهب والعرق.

للاستفادة من تلك التجربة الأوروبية، ينبغي على العالم العربي الانخراط الكامل في ثورة رمزية، بتعريف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، أي ثورة تزعج الهياكل المعرفية التي كانت قائمة قبل الربيع العربي، وبالتالي تزعج وتتحدى الهياكل الاجتماعية وتفرض بنى معرفية جديدة بتعميمها لتستقر وتترسخ في الذوات المكونة للمجتمع. ممكن أن نسمي أيضا تلك المرحلة، التي يجب على العالم العربي الانخراط فيها، ثورة بارادايمية أو نقلة بارادايمية paradigm shift، بمفهوم الفيلسوف الأمريكي، توماس كون، أي ثورة ضد التصورات والمفاهيم والممارسات المعطوبة التي سادت في فترة ما يسمى بالربيع وما قبله وفي القلب منها علاقة الديني بالسياسي ودور المثقف ودور الدولة والمجتمع ونظريات التغيير. . . إلخ.

ثانيا، قبل ما يسمى الربيع العربي تبدو لي أن معظم نظريات التغيير في الفكر العربي كانت محصورة في الاختيار ما بين الانقلاب أو الثورة أو الإصلاح، وأنه قد تم تحميل مفهوم الثورة بحمولة إيجابية مقابل تحميل مفهوم الإصلاح بحمولة سلبية، والتلاعب بمفهوم الانقلاب لوصم الثورات الحقيقية به والعكس.

التجربة الكندية الخاصة بمقاطعة كيبك المتحدثة بالفرنسية، تقدم نموذجا مختلفا للتغيير، وهو نموذج الثورة الهادئة (Quiet revolution) التي ترمز إلى فترة الستينيات في مقاطعة كيبك المتحدثة باللغة الفرنسية بكندا، حيث حدث تغير جذري اتسم بالعلمنة السريعة للمجتمع. مثلت الثورة الهادئة فترة تحول وانطلاقة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي شكلت بشكل دائم كيبيك المعاصرة. الكلمات المفتاحية لتلك الفترة هي “التحرر الاقتصادي”، و”اللحاق بالركب” و”سادة في وطننا”. تمثل الثورة الهادئة على وجه الخصوص بداية سيطرة الكنديين الفرنسيين على اقتصادهم، وإجراء أول انتخابات وأول تعيين للمرأة كوزيرة، وصعود قضية الاستقلال الوطني.

نموذج الثورة الهادئة يخلصنا في نفس الوقت من مثالب الثورات والانقلابات ومثالب الإصلاح البيروقراطي البطيء غير الناجع. فالثورة عملية عنفية بطبيعتها، حتى لو أخفت ذلك، وتهدف إلى هدم النظام السياسي بالكامل من الناحية الدستورية والقانونية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية والشرعية، فيمكنها هدم كل شيء دون أن تضمن بناء أي شيء، وعادة ما تفشل في البناء؛ لانشغالها أكثر بتصفيات ضد الذين يمثلون رموز النظام القديم، ثم بين صانعي الثورة أنفسهم. الثورة تنحو عادة إلى تصدير نفسها لتخلق واقعًا شبيهًا بها في الدول المحيطة، مما يخلق إقليما مضطربا، غير مستقر وغير آمن.

في هذا الإطار تمثل الإسلاموية والمتعاطفون معها والمولعون بها الثورة المضادة؛ فإذا كانت الثورة هي التمرد على الهياكل المعرفية والهياكل الاجتماعية التي كانت قائمة أثناء ما يسمى الربيع أو قبله، فإن الثورة المضادة كما جرى تحديدها وممارستها بعد ثورة 2013 في مصر، هي التمرد على تلك الثورة لإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه. لذا لا تزال عواقب هذا البارادايم الإسلاموي المحتضر، تتبعنا في هذه الفترة الانتقالية التي نمر بها، والتي يجب الإسراع في تخطيها بواسطة أورغانون Organon “آلة” معرفية ثلاثية المراحل: اختبار الحدود boundary testing، تحدي الحدود boundary challenging، كسر الحدود boundary breaking، مع كل فكر يعيق وصولنا للحظتنا التنويرية بإنجاز ثورة إصلاحية أو إصلاح ثوري.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى