حتى الآن، فأكثر المقولات تعبيراً عن ماراثون فيينا بين إيران وبين واشنطن وبعض العواصم الغربية هي مقولة “التشويش المتعمد والغموض غير البناء”.
فلو تم إحصاء المواقف المتناقضة التي يطلقها الطرفان كل على حدة بشأن مجريات التفاوض في محاولة إحياء جثة الاتفاق المنتهية صلاحيته، لكانت النتيجة حتى الآن متوقفة عند سؤال: ماذا يحدث في فيينا؟ هل ما يتم إعلانه من تصريحات متضاربة، ومن مواقف متقلبة، هو مجرد مسعى لإشاعة مناخ من الارتباك لدى الرأي العام ولدى المراقبين؟
لجأ الطرفان المتفاوضان إلى سياسة التحذير المتبادل لبعضهما من خلال نغمة “الوقت ينفد” دون تحديد الطرف المسؤول عن نفاد الوقت.
يبدو الأمر كأنه استثمار للوقت من قبل الطرفين دون الإفصاح عن أي مرحلة من مراحل التفاهم وصلت إليها ثامن جولة من جولات التفاوض.
يتحدث الجانب الغربي عن محددات الاتفاق الجديد المنشود، ويعلن الجانب الإيراني شروطاً لا تتسق مطلقا مع تلك المحددات. الصخب الإيراني المحيط بمجريات جولات التفاوض يتردد صداه في أكثر من مكان، محوره أن طهران لن ترضى إلا بتحقيق ما تريد على الصعد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية وحتى النووية بما يتفق مع قواعد وشروط الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمجتمع الدولي كما تقول. إذاً لِمَ التفاوض؟ وما الغرض منه إن لم ينتج اتفاقاً يطمئن المجتمع الدولي عموما، ودول المنطقة بشكل خاص، بشأن زوال التهديد النووي الإيراني عن الجميع؟
في مرحلة الاتفاق السابق، برهنت طهران على أنها لا تكترث بالتزاماتها الدولية المتعلقة ببنود الاتفاق بشأن برنامجها النووي حين انتقلت من ظاهرة تحدي المجتمع الدولي بسعيها لامتلاك السلاح النووي إلى سياسة الابتزاز وتبني نزعة توسعية في المنطقة أكثر مما كانت عليه مستندة إلى ضمانات الاتفاق السابق وحوّلتها إلى عصا تهديد في سياق مشروعها.
حزمة المطالب الدولية من طهران باتت معروفة للجميع، وهي شرط أساسي لنجاح جهود إحياء الاتفاق السابق الموقع عام 2015 أو لصياغة اتفاق جديد. ما يعلنه المسؤولون الإيرانيون على مختلف مواقعهم يتنافى مع جوهر تلك المطالب وفحواها، إنها مواقف مثيرة للشكوك ولا تنطوي على أي مؤشرات على استعداد النظام الإيراني لتلبيتها أو القبول بها.
واشنطن وحلفاؤها المفاوضون في فيينا يلجؤون إلى “التقيّة” حين يتحدثون عن مجريات التفاوض. لم يقدموا للرأي العام موقفاً صريحا ومتماسكا حول المسار الذي تسلكه العملية التفاوضية، ولا حول النقاط الأساسية المتصلة بحزمة المطالب من طهران أو ما يقترحونه على الجانب الإيراني حين يُظهر تعنّتاً حيال تلك المطالب.
التكهنات تحيط بمسار فيينا وكواليسها. الحقيقة الناصعة هي أن طهران تسرّع من خطواتها في سياق برنامجها النووي وترفع منسوب التوتر والقلق في الإقليم خاصة وفي العالم بشكل عام.
الموضوع لم يعد مقتصرا على التجاذبات الدبلوماسية والمناكفات السياسية المرتبطة بملف إيران النووي وتبعاته وتداعياته على الاستقرار الإقليمي، لقد انتقل إلى مرحلة متقدمة من مراحل تفجير الوضع في المنطقة، وتقدمت احتمالات نشوب حرب أو تفجر صراعات بسببه على كثير من الخيارات الأخرى.
الضمانات المرتقبة في ثنايا الاتفاق المزمع لن تستطيع لجم اندفاعة هنا أو تهور هناك.. الوقت ينفد.. نعم، لكنه ينفد على حساب المنطقة وسلمها وأمنها، وليس على حساب أطراف التفاوض.
ماذا لو انتهت مفاوضات فيينا إلى الفشل التام؟.. ما معايير نجاحها ووصولها إلى اتفاق جديد أو تجديد السابق؟
الصورة الدقيقة لحقيقة ما يجري في فيينا غير واضحة.. هل تباعدت المواقف ثانية بعد حديث خجول سبق الجولة الأخيرة عن حصول تقارب محدود؟
من حيث النتيجة، لا يختلف الفشل التام في التوصل إلى اتفاق عن اتفاق منقوص أو جزئي يتجاهل مصالح دول المنطقة وشعوبها.. تَبنّي واشنطن -ومعها الغرب- فكرةَ اتفاق يتعدى تثبيت سلمية برنامج إيران النووي شكّل التزاماً أخلاقياً أمام المجتمع الدولي، انسجاماً مع موقعها ودورها كقوة عظمى في صون السلم والأمن الدوليين، يقابله التزام آخر يتمثل في الحفاظ على هيبتها ومكانتها.. التزامان يفرضان عليها مسؤولية تتطلب فعلاً وممارسة جادة وضاغطة من أجل حماية مصالح الجميع وإنهاء منابع التهديد المثيرة للاضطرابات وعدم الاستقرار في منطقة تعصف بها تيارات وأمواج من الفوضى بفعل عوامل متنوعة.
الغموض عنوان مناسب.. التلويح بالتهديد من قبل الجانبين المتفاوضين يزيد الأمر صعوبة وتعقيدا.. المجتمع الدولي وضع خيارين أمام إيران، أحدهما التكيف مع مطالبه وقبولها، أو إعادة ملفها مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي.