ماذا وراء دعوة أردوغان إلى دستور جديد؟
في ذروة انشغال الأتراك بالأزمة المالية والمعيشية التي تعصف ببلادهم.
وفي ظل إجماع أحزاب المعارضة على ضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، فاجأ الرئيس رجب طيب أردوغان مواطنيه بالدعوة إلى وضع دستور جديد للبلاد، علما بأن الدستور المعدل المعمول به حاليا لم يمض عليه سوى سنوات قليلة، ذلك الدستور الذي جعل من نظام الحكم رئاسيا في البلاد، وجعل من أردوغان رئيسا برتبة سلطان عثماني مطلق الصلاحيات.
دعوة أردوغان إلى صوغ دستور جديد أثارت الكثير من الجدل في الشارع التركي عن الدوافع، والأسباب، والغايات، والتوقيت، والأهم عن مضمون الدستور الجديد الذي يريده أردوغان، وهل يريد فعلا دستورا ديمقراطيا أم أنه يريد من وراء هذه الخطوة تصفية خصومه السياسيين في الداخل؟
لم يقدم أردوغان أي مبررات مقنعة في معرض دعوته لدستور جديد، سوى القول إنه ينتظر حزمة إصلاحات من وزارات الخزانة والعدل والمالية، ومشاورة حليفه رئيس حزب الحركة القومية المتطرفة دولت باهجلي، والتلويح بضرورة تصفية ما سماه نفوذ بقايا نظام الوصاية، في إشارة إلى الجيش وجماعة غولن، وهو ما دفع بمناهضي نظام أردوغان إلى طرح مجموعة من الأسباب والدوافع التي تقف وراء دعوة أردوغان إلى دستور جديد، ومن أهم هذه الأسباب والدوافع:
1- تحريف الأجندة الرئيسية التي تشغل البلاد، لا سيما الأزمة المالية والمعيشية التي يعاني الأتراك منها، تلك الأزمة التي أدت إلى تراجع شعبية أردوغان وحزبه الحاكم، كما تشير استطلاعات الرأي.
2- القفز فوق إجماع أحزاب المعارضة على الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة للخروج من الانسداد السياسي الذي وصلت إليه البلاد، وإشغال الشارع التركي بقضايا ثانوية.
3- تحصين أردوغان لنفسه وأسرته من الملاحقات القضائية، في ظل التقارير التي تشير إلى تورط أفراد من أسرته في ملفات فساد كثيرة، ودوره في بيع ممتلكات، ومصانع، وأراض إلى أفراد من العائلة القطرية الحاكمة.
4- إقصاء أحزاب معارضة من الحياة السياسية التركية، بدعوى عدم الولاء لتركيا، وتحديدا حزب الشعوب الديمقراطي الداعم للحقوق القومية الكردية، إذ يقبع أكثر من ثلاثين ألفا من عناصره وقياداته في السجون، وقد بدت لافتة الدعوات المتكررة من قبل باهجلي حليف أردوغان إلى حظر الحزب المذكور بزعم ارتباطه بـمنظمات (إرهابية)، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني الذي تحاربه الحكومات التركية منذ نحو أربعة عقود.
5- تقليل صلاحيات المؤسسة العسكرية رغم السيطرة الكاملة لأردوغان عليها، بموجب النظام الرئاسي، والخطوات التي قام بها خلال السنوات الماضية في إطار إعادة هيكلة كل من مجلس الأمن القومي، ووزارة الدفاع، وهيئة الأركان، وهو ما يوحي بخوف دفين لدى أردوغان إزاء هذه المؤسسة التي تعد من أقدم وأهم المؤسسات التركية الوطنية منذ تأسيس الجمهورية التركية قبل نحو قرن.
6- قطع الطريق أمام أحزاب المعارضة التي كانت تعد لتشكيل لجنة دستورية، للبحث في العودة إلى النظام البرلماني، والتخلص من النظام الرئاسي عبر دستور جديد.
7- إرسال رسالة إلى الخارج، وتحديدا إلى الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الديمقراطي جو بايدن، مفادها بأن تركيا بصدد مرحلة جديدة، عنوانها الأول الديمقراطية والمدنية، في ظل التوجهات المعروفة للديمقراطيين لجهة دعم الحريات والديمقراطية.
وبانتظار مآل دعوة أردوغان إلى دستور جديد، تُصوَّب العيون نحو البرلمان التركي، المكان الذي ينبغي فيه مناقشة هذه الدعوة، وبمعادلة حسابية بسيطة، فإن العدد المطلوب لتمرير مشروع قرار بهذا الخصوص غير متوفر؛ إذ إن عدد نواب حزب العدالة والتنمية مع حليفه القومي المتطرف هو 336 نائبا، في حين أن العدد المطلوب هو ثلثا الأصوات، أي 400 نائب من أصل 600. وهذا يعني -حسب الدستور التركي- أن أردوغان سيلجأ إلى خيار التوجه إلى إجراء استفتاء شعبي على غرار ما جرى عام 2017 للانتقال إلى النظام الرئاسي.
والسؤال هنا، هل تركيا جاهزة لمثل هذا الخيار في ظل الأزمة المالية، وانتشار وباء كورونا، وعدم وجود توافق سياسي على الدعوة إلى دستور جديد؟
من دون شك، الأسئلة كثيرة بشأن دعوة أردوغان إلى دستور جديد بحجة الإصلاح، لكن يبقى السؤال الأهم، هو.. هل فعلا نظام أردوغان قابل للإصلاح بعد أن توغل في الاستبداد في الداخل، وجعل من تركيا مصدرا للحروب في الخارج؟ سؤال لم أجد إجابة كافية وشافية عنه، سوى فيما كتبه الكاتب التركي المعروف جنكيز اكتار، عندما كتب في مقال له في موقع أحوال تركية قبل نحو شهر، تحت عنوان لا يمكن إصلاح الديكتاتورية وجعلها ديمقراطية كحال تركيا: “لا يمكن إصلاح الأنظمة الشمولية على عكس ما يصدق الساذج ويروج الخبيث. يصدق الأول للحفاظ على أمل يروج له، أما الثاني فبالتلاعب وإساءة استخدام خطاب الإصلاح لتحقيق مصالحه الخاصة”، ويمضي اكتار بالقول إن “التصريحات المنمقة من المستحيل أن تؤدي إلى إصلاح الأنظمة الشمولية، كما من المستحيل أن تتحول الأنظمة الشمولية إلى الديمقراطية كما هو الحال في تركيا”.
في الحقيقة، دعوة أردوغان إلى دستور جديد من بوابة الإصلاح، هو اعتراف غير مباشر بغياب الديمقراطية في نظامه السياسي، كما أنه اعتراف بوصول هذا النظام إلى انسداد سياسي، وفي الوقت نفسه تعبير عن المأزق السياسي الذي يعيشه هذا النظام في علاقاته مع الخارج.