ماذا وراء التصعيد التركي في “عين عيسى”؟
صعد الجيش التركي من وتيرة قصفه اليومي لمنطقة عين عيسى شمال شرق سوريا، إلى درجة أن الفصائل المسلحة التابعة لتركيا في المنطقة
بدأت تروج لعملية عسكرية تركية جديدة على غرار عملية “نبع السلام”، التي أطلقتها تركيا قبل نحو عام وانتهت باحتلالها للمنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، وتهجير قرابة ثلاثمئة ألف نسمة من أهالي تلك المنطقة، وهم من العرب والأكراد والآشوريين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا تصعد تركيا ضد عين عيسى؟ وما هي أهدافها من وراء ذلك؟ وأين دور اللاعبين الروسي والأمريكي؟ في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من التوقف عند الدوافع والأسباب التالية:
1- إن منطقة عين عيسى تشكل رمزا سياسيا وإداريا وعسكريا لما يطلق عليها الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وبمثابة العاصمة الإدارية لها، منذ سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عليها بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش قبل نحو خمس سنوات. وعليه، فإن أحد أهم أسباب التركيز التركي على عين عيسى، هو ضرب هذه الرمزية السياسية، على اعتبار أنها تختزل قسد بالأكراد فقط، حيث العداء التركي لأي مشروع كردي يشكل ثابتا من ثوابت السياسة التركية في الداخل والخارج.
2- وضع اليد على الطريق الدولي (إم 4) الذي يربط بين حلب والقامشلي، وهو ما يعني سيطرة وهيمنة تركيا على كافة مناطق شمال سوريا وشرقها، بل وحتى شمال العراق، نظرا لما لهذا الطريق من أهمية تجارية وأمنية واقتصادية وجيوسياسية حيوية.
3- تقطيع أوصال مناطق الإدارة الذاتية، إذ أن عين تتوسط بين الرقة ومنبج وكوباني – عين العرب – شمالا وجنوبا، وبين القامشلي وحلب شرقا وغربا، وإذا ما نجحت تركيا في احتلال عين عيسى، فستشكل ضربة في قلب الإدارة الذاتية، ومحاصرة لمدينتي منبج وكوباني، ولن تتوانى عن احتلالهما لاحقا.
4- إن أي عملية عسكرية ضد عين عيسى، ستشكل ضربة للحوار الكردي – الكردي الجاري برعاية أمريكية، إذ أنها ستدفع الطرف الكردي، أي المجلس الوطني الكردي ، المنضوي في إطار الائتلاف السوري، ويتخذ من تركيا مقرا له، إلى رفع سقف شروطه، وخلط الأوراق، بما يؤدي إلى فشل الحوار، وهو ما تريده تركيا فعليا.
5- إن أردوغان يعتقد أن الفترة المتبقية لحكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قد تكون فرصته الأخيرة للقيام بعملية عسكرية جديدة للسيطرة على منطقة سورية حساسة له، حيث أن مثل هذه الفرصة ربما لن تكون متاحة في عهد الإدارة الأمريكية المقبلة برئاسة الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن الذي أبدى مرارا رفضه لسياسات أردوغان في سوريا واليونان وقبرص.
6- إن أردوغان الذي امتهن سياسة الصفقات والمقايضات في الأزمة السورية، قد يعتقد أن مثل هذه العملية، ستشكل منعطفا لاستمالة الروس إلى جانبه إذ انتهج بايدن سياسة حازمة ضده، وهو هنا ينطلق من مسألتين. الأولى: التنافس الروسي – الأمريكي من أجل السيطرة على مناطق شرقي الفرات. الثانية: السعي الروسي لوضع هذه المناطق تحت سيطرة الحكومة السورية في دمشق بدلا من الإدارة الذاتية هناك، ومثل هذا الأمر يبقى أكثر قبولا لتركيا لأسباب كثيرة. في الواقع،
من الواضح أن المشروع التركي الحقيقي في شمال سوريا وشرقها، هو السيطرة التدريجية على كامل هذه المنطقة، ومن ثم إجراء عمليات تطهير عرقي، وتغيير ديموغرافي، وإقامة بنية خدمية فيها مرتبطة بتركيا، كما حصل ويحصل في مدن عفرين ورأس العين وجرابلس وإعزاز، وهو ما يعني عمليا تهيئة فصل هذه المناطق عن سوريا، كما حصل للواء اسكندرون من قبل، وفي أحسن الأحوال، وضعها تحت سيطرة تركية مباشرة، كما هو حال منطقة شمال قبرص التي غزتها تركيا عام 1974، وبقيت جاثمة فيها إلى الآن، على شكل احتلال دائم، ولعل هذا ما يفسر إفشال تركيا للجهود الأممية التي هدفت إلى توحيد الجزيرة القبرصية.
في جميع الأحوال، لن يتوانى أردوغان عن القيام بأي عدوان جديد لتحقيق أجندته التوسعية إذا وجد ما يشبه الضوء الأخضر من موسكو أو واشنطن للقيام بعملية عسكرية لاحتلال عين عيسى، وهو عندما يفعل ذلك، لا بد أن يضع نصب عينه اتفاقه مع كل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، بخصوص وقف إطلاق النار خلال عملية ( نبع السلام )، وضمانات بعدم القيام باعتداءات جديدة من خلال التزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار، حيث كان لافتا تصريح المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري، عندما أعلن خلال زيارة لشرقي الفرات قبل أكثر من شهر ( أن تركيا لن تطلق عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا )، مع الإشارة إلى أهمية هذا الكلام الصادر عن جيفري إلا أنه لا يمكن الرهان عليه، في ظل سياسات أردوغان التي لا تلتزم بوعد أو ميثاق أو اتفاق أو عهد، ولا يتوانى عن ارتكاب عدوان تلو العدوان، كما هو حاصل في سوريا والعراق وليبيا والقوقاز.
وعليه، فإنه بانتظار تسلم الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها، تبقى الأنظار مشدودة إلى دور روسيا، وكيفية تعاملها مع التصعيد التركي ضد عين عيسى، على نحو هل ستسايرها روسيا في إطار التنافس مع الجانب الأمريكي على شرقي الفرات، أم أن سياساتها وحساباتها وتفاهماتها مع الإدارة الامريكية أكبر من منح أردوغان فرصة جديدة للاحتلال؟ مع التأكيد على أن الوضع في عين عيسى محكوم إلى حد كبير بالتفاهمات الروسية – التركية، فإن أياما وربما أسابيع قليلة ستكون صعبة في عين عيسى التي تتعرض لقصف يومي من تركيا والفصائل الموالية لها، ولعل الأمل الذي يسكن أهلها هو عدم تكرار مأساة جديدة على غرار ما جرى لعفرين ورأس العين … وهذه مسؤولية أمريكية وروسية معا، إذ دون ذلك لن تهدأ الطموحات الجامحة لأردوغان الذي يعيش على وقع أزماته الداخلية والخارجية، ولن تشهد الأزمة السورية حلا أو حلولا سياسية طالت انتظارها، في وقت تتفاقم فيه معاناة السوريين في كل الاتجاهات.