ماذا تخبّئ المواجهة بين ماكرون وأردوغان؟
عندما وقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، في أذربيجيان، يحتفي بانتصاره العسكري في إقليم ناغورني كراباخ ضد أرمينيا، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُسجّل ارتياحه إلى نجاته من الهزيمة في بروكسيل، بإقرار الإتحاد الأوروبي “الحد الأدنى” من العقوبات ضد أنقرة.
وإذا كان أردوغان قد فرض نفسه في “ناغورني كراباخ” لاعباً إقليمياً شديد المراس قادراً على تحقيق مكاسب غالية في الشرق، بحيث بات الطريق مفتوحاً أمام بلاده حتى تركمنستان، مستقلاً بذلك عن الحاجة الى إيران، فإنّ ماكرون قد قدّم، بدوره، الدليل على أنه قادر على تهديد مصالح أنقرة في الغرب، ذلك أنّه، ولو أنّ الموجة الأولى من العقوبات تستهدف أشخاصاً وشركات على صلة بالتنقيب عن النفط في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فإنّ الموجة الثانية المتوقعة في آذار (مارس) المقبل ستكون أشدّ وطأة وأكثر اتّساعاً وأكبر كلفة.
إنّ دفّة الميزان، بالنتائج الملموسة المحققة حتى تاريخه، تميل لمصلحة أردوغان، ذلك أنّ آلته العسكرية استفادت من الموقع الإستراتيجي لتركيا، وفرضت نفسها في شمال سوريا وليبيا والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والقوقاز وقطر. ولكن، في المقابل، فإنّ “الآلة الدبلوماسية” الفرنسية، وإن كانت نتائجها أبطأ، أثبتت قدرتها على إنجاز الخروق الإستراتيجية ضد تركيا، فإيطاليا وإسبانيا وألمانيا، تخلّت عن تحفّظاتها السابقة على اللجوء الى لغة العقوبات في التعاطي مع تركيا، بالتزامن مع انطلاق العد العكسي لانتهاء زمن “التسامح الأميركي” الذي ميّز العلاقات مع تركيا، في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ونزع ماكرون “الشوكة” من علاقاته مع الدول القويّة المناهضة لتركيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحيث حيّد ملف حقوق الإنسان الذي كان يعترض الحلف الاستراتيجي مع مصر، ممّا هيّأ الأرضية لزيارة الدولة المثمرة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي لباريس، أخيراً.
ومن شأن هذه النقلة المهمة على الرقعة الإستراتيجية، تمكين القاهرة وباريس وحلفائهما العرب والأوروبيين من “احتواء” الاندفاعة التركية، والتخفيف من وطأة تصوير صراع المصالح كما لو كان صراعاً مسيحياً-مسلماً، وفق ما يريده ليس أردوغان فحسب، بل اليمين الأوروبي أيضاً.
وقدّمت باريس لدول الاتحاد الأوروبي نموذجاً عن طريقة احتواء أوراق قوة أنقره داخلها، من خلال نزع أذرعتها الدينية الممتدة ضمن المكوّنات الإسلامية لشعبها، بالتزامن مع إدخال تعديلات مهمة على أدبياتها، كنزع كل إشارة يمكن اعتبارها تستهدف الإسلام، من مشروع قانون “محاربة الإنفصالية” الذي قدمته الحكومة الفرنسية للبرلمان، تعزيزاً للعلمانية.
ونجح ماكرون، من دون عناء، في تحويل الهجمات العنيفة التي شنّها أردوغان ضدّه شخصياً إلى ورقة قوة، ليس في الداخل الفرنسي فحسب، بل في “نادي الرؤساء” في العالم الذي تُذكّره هذه النوعية الرديئة من الأدبيات السياسية، بشخصيات وحقبات لا يريد أحد إحياءها مجدّداً، بل يطمح الجميع إلى التخلّص نهائياً من فلولها.
من هنا إلى أين؟
بطبيعة الحال، إنّ ما أنجزته تركيا في الميدان، في السنوات الأخيرة، وموقعها في حلف شمال الأطلسي ومحاولة جذبها روسياً، يبقيها، في موقع القوّة ويمنحها قدرات على إنجاز مناورات تستقطب الكثير من العروضات المغرية، ولكن، في المقابل، فإنّ المتغيّرات الحاصلة، سواء في العالم العربي، أو في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية أو في الوقائع الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية بفعل جائحة كوفيد-19، سيضيّق هامش الوقت أمام أنقرة وسيدفعها الى اللعب على حافة الهاوية، حيث أثبت أردوغان، في أكثر من مناسبة، أنّه مكان لا يستهويه.
ومواجهة بهذه المعطيات، ستكون لها آثار كبيرة على الدول المتأثرة بسياسة “تجميع الأوراق”، كليبيا وأرمينيا ولبنان وشمال سوريا وإسلاميي أوروبا وملف النازحين.
ولا يُخشى أن تلجأ تركيا الى الورقة الإيرانية، لأنّها، في ظل المتغيّرات الإستراتيجية، سوف تحاول بالممكن تحييد إسرائيل التي دخلت إلى حيث لم تكن تركيا ترغب بالدخول، أي الى الإمارات العربية المتحدة والسودان والمغرب والبحرين، وهي دول حليفة لمصر والمملكة العربية السعودية وفرنسا.
بالمحصّلة، وأمام هذه الوقائع، من الصعب أن يستبعد من يحب استشراف المستقبل أن تسود التهدئة على الخط التركي-الأوروبي قبل حلول آذار(مارس) المقبل، تاريخ مراجعة قائمة العقوبات، وبعد حلول 20 كانون الثاني (يناير) المقبل، تاريخ مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض.
*نقلا عن النهار