سياسة

ليبيا والعبور الآمن


المخاض، الذي تعيشه ليبيا هذه الأيام، أضفى على المشهد الداخلي كثيراً من الضبابية.

فرقاء من المؤسسات الرسمية يعطون الانطباع بأنهم خلية نحل لا تستريح ولا تهدأ، والهدف هو الوصول إلى الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل بجهوزية كاملة لإجراء الانتخابات الرئاسية.

معنيون دوليون بالشأن الليبي، من شخصيات رسمية دولية وغيرها، يحثون الخطى لإنضاج مستلزمات الحدث الفاصل في مسيرة ليبيا الجديدة.

التقاؤهم على جدول أعمال موحد بهذا الخصوص تقابله انقسامات متواترة بين أبناء الجلدة الواحدة داخل ليبيا.

تنوس المواقف، التي يتناوب على إشهارها مسؤولون ليبيون بين رغبة عارمة من قبل البعض في ضرورة العمل على تجاوز جراح الأمس وعقبات الغد، التي تعترض سبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وبين إصرار آخرين على وجوب تمهيد الطريق بشكل مدروس ومتقن قبل موعد الاستحقاق. 

بروز حالة تباين أو انقسام في أي منافسة انتخابية، عندما يكون المناخ الوطني السائد في البلاد غطاء للجميع، ليست غريبة، لا يُقصى طرف على حساب آخر، ولا يُستبعد برنامج لمصلحة نزوة أو نزعة فردية أو مناطقية.. الجميع تحت سقف القانون، حقوقاً وواجبات، هذا افتراض يمتلك مشروعية نسبية في الحياة الليبية خلال المرحلة الراهنة، والسؤال الآن: لماذا لم يتفجر الجدال الداخلي بشأن الانتخابات الرئاسية حين جرت الانتخابات البرلمانية قبل أشهر قليلة؟ ألم يكن الأولى طرح الملفات الشائكة والمرحّلة أو المعلقة، سياسية واقتصادية وأمنية، قبل تنفيذ العملية الانتخابية تلك؟ هل الأجدى أن يجري العمل على إعداد دستور جديد للبلاد يوصّف طبيعة الدولة ونظامها المنشود، رئاسيا أم برلمانيا، وبناء عليه تجري عملية الانتخابات البرلمانية منها أو الرئاسية؟.. أسئلة مشروعة ولا أجوبة حاسمة ولا حتى واضحة بشأنها حتى الآن، فالقفز فوق المشاكل والتحديات التي تواجه ليبيا على الصعيد الداخلي، سياسيا، وأمنيا، واقتصاديا، ومجتمعيا، ضربٌ من المغامرة غير محسوبة النتائج.

فبعد عقد من الصراعات والحروب لا بد للمعنيين، من قادة ليبيا الحاليين، أن يقفوا ملياً أمام تركة تلك العشرية ومفرزاتها الاجتماعية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وإطلاق مشروع معالجة ما، هو ملحّ على طريق السير نحو الأهداف الوطنية الكبرى التي لا تتحقق إلا بروح العمل الجماعي والأخذ بعين الاعتبار هواجس ومصالح ومتطلبات الجميع والتقدير الموضوعي لحجم القوى السياسية والعسكرية والمجتمعية والحزبية الناشئة الفاعلة والمؤثرة في الحياة الليبية اليوم. 

متطلبات عديدة تحتاج السلطات الليبية إلى تحقيقها على طريق المضي قدما نحو الاستحقاق الانتخابي، أبرزها جسر الهوة بينها وبين الشعب الليبي بكل مكوناته من خلال رؤية وطنية شاملة تقوم أساسا على حل عقدة المظاهر المليشياوية، وإنهاء وجود المرتزقة الأجانب، وإنهاء الانقسام الداخلي عبر توحيد المؤسسات، وطي صفحة المنازعات بين الأطراف وتفعيل دور مؤسسات السلطة كلها.

لا يبدو تحقيق هذه المتطلبات أمراً مستحيلا في ظل إرادة دولية ملحوظة تدفع باتجاه فتح صفحة مغايرة لما كان عليه واقع المرحلة الانتقالية التي يُفترض أن تتوّج بانتخاب أجسام سياسية وبرلمانية تقود المرحلة الجديدة.

رهانات الحكومة الانتقالية الحالية على استثمار الرعاية الدولية لتوجهاتها ومسارات عملها يصب في خانة إدراكها لأهمية توظيفه في نزع الألغام الداخلية التي تعترض خطواتها.

فحكومة “الدبيبة” تسابق الزمن استناداً إلى المهمة الرئيسية الملقاة على عاتقها في المرحلة الانتقالية لإنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة ضمن وقت محدد.

فقد وسّعت مروحة تحركاتها الخارجية لحشد التأييد والدعم لمهمتها، ومعيار نجاحها يقتضي بلورة معادلة من حدين، الأول والأكثر أهمية يكمن في تشكيل أرضية داخلية متجانسة من أطياف الشعب الليبي كافة، حزبيا وسياسيا واجتماعيا، على قاعدة دستورية وقانونية وحقوقية لكي يتسنى لها قيادة الليبيين إلى صناديق الانتخابات المقبلة بعيدا عن الصراعات المناطقية ضمن سياقات التنافس المشروع بين القوى والكتل التي تأتمر بنص الدستور فحسب، أما الحد الثاني فمحوره طمأنة الليبيين بأن مظاهر التدخل الخارجي بأشكاله المتعددة، مرتزقة، مليشيات، وحتى التدخلات المثيرة للاستفزاز من هذه الدولة أو تلك، سيتم إنهاؤها بما يصون سيادة البلاد واستقلالها ومصالحها.

عسر المخاض الناشئ ينبئ باحتمالات كثيرة لا يُستثنى منها احتمال تفجر الصراع مجددا إذا لم تلتق الأطراف الليبية الفاعلة على كلمة سواء، لا تزال بعض الأصابع على الزناد بدوافع مصالح خارجية وأخرى ذاتية داخلية.

الاستقرار الأمني والاجتماعي قاعدة متينة للاستقرارين الاقتصادي والسياسي بسبب طبيعة ومكونات المجتمع الليبي.

والأشهر المتبقية حتى موعد الاستحقاق الانتخابي تبدو كافية لوضع حجر الأساس للبناء المنشود، شرط توفر الإرادة السياسية والوطنية لدى الجميع. التقاط الفرصة السانحة باتت معيارا أساسيا لمدى قدرة السلطات الليبية الرسمية على التفاعل مع متطلبات المرحلة الانتقالية وإدارة معضلة التناقضات بين مختلف القوى والتيارات من جانب، وتحويلها إلى مسار وطني جامع من جانب آخر. المخاض يبدو للوهلة الأولى عسيرا لكنه ينبئ بولادة قادمة.. شكل هذا المولود وجوهره ليست مسؤولية طرف ليبي دون آخر، بل يتطلب دورَ ومشاركة الأطراف كلها حتى تكتب له الحياة والاستمرار ويكون نواة صالحة للبناء عليه..

الكرة الآن في ملعب الليبيين دون غيرهم.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى