ليبيا.. نهاية الصراع بين الثعلب والثور
في عام 1980 نشر أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع كتابه “اتفاقيات كامب ديفيد: قصة الحوار بين الثعلب والذئب”، تنبأ فيه بأن إسرائيل سوف تغزو لبنان بعد تأمين حدودها الجنوبية، وهو ما حدث فعلا بعد ذلك بعام واحد. ومن عنوان هذا الكتاب تم اقتباس عنوان هذا المقال؛ الذي يتناول الصراع بين نموذجين؛ أولاهما يمثل الحنكة السياسية والدهاء، والرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، وثانيهما يمثل الاندفاع العاطفي، الغارق في أوهام العظمة والقوة، والمتجاهل لحقائق الواقع والتاريخ، والذي تتحكم فيه إيديولوجية مغلقة ترسخ حالة الكبر والغرور والغطرسة السياسية.
النموذج الأول تمثل في القيادتين الروسية والمصرية، والنموذج الثاني تحتكره بصورة كاملة القيادة التركية. الأول هو نموذج الثعلب، والثاني هو نموذج الثور.
نجحت القيادة المصرية في استثمار حالة الهيجان الثوري (نسبة للثور وليس نسبة للثورة) التي انتابت أردوغان بعد أن زال سراب الإخوان من مصر؛ وتركت أردوغان يعيش الحلم أنه قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؛ وإعادة الإخوان إلى حكم مصر؛ بالسباب والبذاءة، والتجريح والتآمر على مصر وقيادتها. فلم تنشغل القيادة المصرية به؛ بل تركته يلهو بأصابعه الأربعة، وانصرفت إلى توثيق العلاقات مع اليونان وقبرص؛ حتى فاجأته بتوزيع الغاز والنفط في شرق المتوسط بين الدول الثلاث: مصر وقبرص واليونان، واستيقظ أردوغان على كابوس أن مصادر الطاقة في شرق المتوسط قد تم توزيعها، وهو في سكرة تحقيق حلم الخلافة العثمانية، وإذا به يخسر الشواطئ التركية.
وكانت سوريا هي الساحة التي مارست فيها القيادة الروسية كل سياسات الثعلب الماكر، وتركت الثور الهائج يهيم في أحلام ضم معظم أراضي سورية إلى الدولة التركية عندما تنتهي “اتفاقية أضنة” التي رسمت حدود تركيا الحديثة عام 1923، فتركت أردوغان يوظف أجهزة مخابراته لجلب كل شذاذ الأفاق من مرضى العقول والقلوب من أنصار داعش والقاعدة إلى سورية، ويتآمر مع تجار الدين والوطنية من جماعات المعارضة، ويظن أن سورية قد صارت لقمة سائغة توشك أسنانه أن تقضمها.
فإذا بروسيا تحوله إلى مجرد ثور هائج يكسر كل ما يقع في طريقه دون أن يعرف ماذا يريد. لذلك نجح الثعلب الروسي في استدراج الثور التركي من خلال تنازلات لفظية ودبلوماسية على مستوى التصريحات وبيانات المؤتمرات، ولكن على مستوى الحقيقة كان أردوغان يتقدم من هزيمة إلى هزيمة، ومن خسارة إلى خسارة؛ حتى تم حشر جمع من الإرهابيين في سوريا على حدوده في إدلب، وتم تحويلهم إلى قنابل موقوتة ستنفجر في وطنه يوما ما في المستقبل القريب. وعادت سوريا الدولة، وخسر أردوغان كل رهاناته التي حطم من أجلها كل مدن الدولة السورية.
وأخيرا جاء المسرح الليبي الذي سوف يشهد نهاية الصراع بين نموذج الثعلب، ونموذج الثور، وعلى المسرح الليبي اصطف كل من يمثلون النموذج الأول في الشرق، وكل من يمثلون النموذج الثاني في الغرب، وتصادمت المصالح العليا في الجولة الأخيرة للحالمين بمشروع الشرق الأوسط الجديد، ولكل رهانات الفوضى الخلاقة، ولكل المسائل العالقة من زمن الحرب الباردة. روسيا التي عضت أصابع الندم لأنها وقعت ضحية لخداع حلف الأطلنطي في لحظة تدخله عام 2011، وخسرت ليبيا القذافي لصالح الغرب، ومعها مصر التي تمثل لها ليبيا “استراتيجية بطن الفيل” على حد وصف أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع لإيران في عهد الشاه بالنسبة للاتحاد السوفيتي، حيث تكون بطن الفيل هي أضعف نقاط التأثير فيه، ومن ثم هي أخطر نقاط الأمن القومي، ولن يقبل فيها أحد نظاما إخوانيا تابعا لدويلة قطر؛ يتآمر على أمنها الوطني، ويدعم كل مارق وخائن.
في المقابل وعلى جانب نموذج الثور هناك النظام التركي الذي تحول إلى ما يشبه العصابة التي تنفذ الأعمال القذرة لحلف الأطلنطي، وللولايات المتحدة تحديداً، ومعها يقف كل من الرئيس الأمريكي ترامب الذي يقدم نموذجا للعلاقات الدولية يستبطن عقلية نوادي “لاس فيجاس” بكل ما تحويه من مقامرات ومغامرات، وتقف وراءهما إيطاليا والإمبراطورية العجوز.
تم التلويح للثور بالراية الحمراء، وأوهمه “الميتادور” أو مصارع الثيران أنه يهرب أمامه، فاندفع الثور التركي بعنفوان يحسد عليه، وصاحب اندفاعه حملة إعلامية تمجد انتصاراته وتقدمه، وقرب هزيمة خصومه، وهيمنته على الدولة الليبية، ثم خرج المفتي ليتاجر بالدين لصالح الحزب والجماعة، ويطالب أن يتم تسليم ثروات ليبيا لأردوغان وفاءً ورداً للجميل.
والحقيقة أنه تم استدراج تركيا أردوغان إلى المستنقع الليبي، وغاصت أقدام الثور في الوحل، ونجح المشير حفتر وداعموه في تحويل الصراع في ليبيا من حرب أهلية إلى عدوان خارجي يهدف للاحتلال وسرقة الثروات والقضاء على السيادة الوطنية، وتراجع الجيش الوطني لتأكيد حالة الاستعمار التركي الجديد، ولمزيد من الاستفزاز للمشاعر الوطنية من جانب، ولنزع الشرعية عن الحكومة العميلة في الغرب، ولفضح كل الأطراف التي قامت بتسويق مشروع حكومة “الروبوت السياسي” السيد فايز السراج التركي الأصل…
هنا سقط الثور في خدعة سياسية ماهرة سيخرج منها خاسرا عسكريا؛ لأن الشعب الليبي الكريم من أحفاد عمر المختار لا يقبل الضيم، ولا يطيق المستعمر، وخاسراً سياسياً واقتصاديا؛ لأن الحكومة القادمة لن تستطيع التعامل مع المستعمر العثماني البغيض.