ليبيا.. صراع الميليشيات ومناورات تعقيد الأزمة
خارطة طريق واضحة ومحددة المعالم توصلت إليها القبائل الليبية أثناء اجتماعها نهاية الأسبوع الماضي في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، بناءً على تشخيص دقيق لطبيعة الأزمة التي تشهدها البلاد منذ تسع سنوات بعد الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، ومن ثم تحولها إلى بؤرة لنشاط وتجمع مختلف التنظيمات والعصابات الإرهابية، علاوة على انتشار السلاح بمختلف أنواعه الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، والتي وصلت بحسب تقديرات دولية إلى ما يزيد على 26 مليون قطعة سلاح.
الحلول التي صاغت خارطة الطريق جاءت في سياق وصف الأزمة باعتبارها أمنية بالدرجة الأولى، كون البلاد تشهد منذ تأسيس الجيش الوطني الليبي على يد المشير خليفة حفتر حربًا لتحرير مدنها من سيطرة التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية التي تقاسمت المدن والأقاليم الليبية كمناطق نفوذ، وأن هذه الحرب أعلنت لاستعادة الدولة الليبية والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها.
غير أن المشكلة الأمنية أخذت بعدًا سياسيًا تحرريًا بعد توقيع حكومة السراج الميليشياوية اتفاقين أمني وبحري مع تركيا، فتحا الباب لعودة الاحتلال التركي العسكري للأراضي الليبية.
وتأسيسًا على ذلك أكدت ما يمكن تسميتها بوثيقة ترهونة دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر، وحثه على استكمال معركة الكرامة لتحرير ما تبقى من شوارع طرابلس ومدن الغرب الليبي من الغزاة الأتراك ومرتزقتهم السوريين، علاوة على ميليشيات وعصابات السراج.
كما أكدت الوثيقة، استمرار تفعيل قرار القبائل بغلق المنشآت والموانئ النفطية وضرورة إعادة تشكيل المجلس الرئاسي وحكومة وطنية يقرها البرلمان برئاسة المستشار عقيلة صالح، وتحرير المؤسسات الاقتصادية والمالية من سطوة عناصر جماعة الإخوان الإرهابية -وفى مقدمتها المصرف المركزي الليبي ومؤسستي النفط والاستثمار- لضمان التوزيع العادل للثروة ومنع تمويل الجماعات الإرهابية من عائدات النفط.
وثيقة ترهونة عبرت عن إجماع ليبي شعبي على خارطة طريق شارك في إعدادها غالبية القبائل الليبية التي مثلت الأقاليم الثلاثة: (برقة وفزان وطرابلس)، بالإضافة إلى مثقفين وسياسيين مثلوا معظم فئات الشعب الليبي ومختلف توجهاته؛ وقد جاءت ليس فقط لتقديم المزيد من الدعم السياسي والشعبي لكل من الجيش الوطني الليبي ومجلس النواب، وانما لتعرى حقيقة مواقف الجارتين الغربيتين لليبيا تونس والجزائر، والتي لطالما اتسمت بالغموض.
فرغم كثرة التصريحات التي أكد فيها الرئيسان التونسي قيس سعيد والجزائري عبد المجيد تبون، ضرورة إيجاد حل ليبي تصوغه القبائل والفعاليات الشعبية والسياسية المحلية، للجمع بين الفرقاء ووقف ما اسموه بـ«الاقتتال الأهلي»؛ وعدم انحيازهما لأى من الأطراف المتقاتلة؛ أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد أثناء اجتماعه مع أمير قطر استعداده لاستضافة اجتماع آخر للقبائل الليبية لبحث الأزمة، مؤكدًا تطابق رؤيته مع نظيره القطري إزاء الأحداث في ليبيا ليضرب بعرض الحائط مخرجات اجتماع ترهونة معولًا في ذلك على بعض العناصر الليبية التي يمكن شراؤها بالمال التي لا تبخل به خزائن الدوحة لدعم حكومة السراج الميليشياوية.
وفى حال تمسك تونس والجزائر بتصريحاتهما السابقة بشأن رفض التدخلات الأجنبية وعدم انحيازهما لأى طرف ليبي؛ يصبح عليهما اتخاذ مواقف أكثر صراحة في ما يخص وصف طبيعة التواجد التركي العسكري عبر الضباط والجنود والمرتزقة داخل الأراضي الليبية وبات عليهما توجيه إدانة صريحة لعمليات نقل المرتزقة والأسلحة التي تقوم بها السفن التركية من خلال مينائي مصراتة وطرابلس، وإن كانت التصريحات الإعلامية باتت غير كافية لإثبات انحيازهما لمصالح الشعب الليبي.
إضافة للدور التونسي والجزائري المتطابق مع الرؤية القطرية طبقًا للتصريحات الرسمية، يبدو أن المبعوث الأممي غسان سلامة يلعب أدوارًا مشابهة من شأنها إطالة أمد الأزمة وتعقيدها بدلًا من العمل على حلحلتها، بهدف تثبيت أركان حكومة السراج الميليشياوية وتمكين عناصر جماعة الإخوان الإرهابية من لعب دور حاسم في مستقبل ليبيا.
فرغم التزام مجلس النواب الليبي باختيار 13 عضوا كممثلين له في اجتماعات المسار السياسي بجنيف، فإنه تدخل في اختياراته واستبعد ثمانية أعضاء من تلقاء نفسه، كما اعتمد نواب مفصولون من البرلمان الشرعي كممثلين عن البرلمان الموازي الذي أعلن تأسيسه في طرابلس مخالفة للقانون والمبادئ الدستورية، واتفاق الصخيرات الذي اعترف بشرعية البرلمان الليبي المنعقد في طبرق برئاسة المستشار عقيلة صالح.
سلامة لم يعتد بقرارات وخيارات الهيئة الشرعية الوحيدة المنتخبة في ليبيا والمعترف بها دوليًا ما دعا البرلمان الليبي إلى إعلان مقاطعة مباحثات جنيف اعتراضًا على تدخلات سلامة وحتى يتم الاستجابة إلى 12 شرطًا وضعها للشروع في خوض مفاوضات المسار السياسي على رأسها: انسحاب مرتزقة أردوغان، وتفكيك ميليشيات السراج، والاعتراف بالجيش الوطني الليبي كجهة وحيدة من حقها جمع السلاح، ودمج الكتائب العسكرية، ومحاربة الإرهاب والعصابات الإجرامية، وتأمين المناطق الحيوية والحدود، إضافة إلى تشكيل مجلس رئاسي جديد يضم رئيس ونائبين يمثلون الأقاليم الثلاثة وحكومة وحدة وطنية على نفس الغرار تأخذ شرعيتها من اعتراف مجلس النواب الليبي، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.
إلى ذلك اعترض مجلس النواب على بعض الشخصيات التي اختارتها البعثة الأممية غير أن غسان سلامة ضرب بكل تلك الملاحظات عرض الحائط، وأعلن انعقاد مفاوضات المسار السياسي في موعدها رغم إعلان البرلمان تعليق مشاركته في مباحثات جنيف، وهو ذات الموقف الذي اتخذه المجلس الأعلى للدولة والبرلمان الموازي المواليان لحكومة السراج الميليشياوية، والذي طلب تأجيل الاجتماع لحين التعرف على مخرجات الاجتماع الثالث لمفاوضات المسار العسكري مشترطًا انسحاب قوات الجيش الوطني الليبي إلى ما قبل 4 أبريل الماضي.
وفيما يبدو أن سلامة اكتفى بالنواب والشخصيات التي قامت البعثة الأممية بالاتصال والتنسيق مع شخوصهم بعيدًا عن مجلس النواب الليبي، ليبدأ بهم مفاوضات المسار السياسي وهو من شأنه تعقيد الأزمة، خاصة أن مجلس النواب طالب ممثليه الذين سافروا إلى جنيف بسرعة العودة إلى ليبيا، لكن بعضهم رفض الاستجابة لقرار المجلس، وهو ما فسره مراقبون بوجود انشقاقات واختراقات لبعض النواب من قبل جماعة الإخوان وعاونها في ذلك المبعوث الأممي غسان سلامة.
مهما كانت مخرجات مفاوضات المسار السياسي لن تجد طريقًا للتنفيذ؛ حيث لن يعترف بها مجلس النواب المنعقد في طبرق، وفيما يبدو أن مسارات برلين الثلاثة ماضية إلى طريق مسدود، خاصة أن المبعوث الأممي قد صاغ من تلقاء نفسه مسودة لاتفاق وقف إطلاق النار، ولن تلقى قبول الطرفين في لجنة 5+5 العسكرية؛ حيث يشترط الجانب الممثل لحكومة الميليشيات انسحاب الجيش الوطني الليبي خارج العاصمة طرابلس، وهو ما لم تنص عليه المسودة، كما أن الطرف الممثل للجيش الوطني الليبي يشترط انسحاب مرتزقة أردوغان وضباط وجنود الاحتلال التركي وتفكيك الميليشيات ونزع أسلحتها.
لكن ما تشهده العاصمة طرابلس الآن من تطورات قد يرسم صورة جديدة لطبيعة الصراع بعد انقلاب وزير داخلية الوفاق فتحي باش أغا على ميليشيات طرابلس، وتسميته ميليشيا النواصي كميليشيا خارجة على القانون، واتهامه لميليشيا أخرى باختراق جهاز المخابرات العامة الليبي سعيًا منه لتمكين ميليشيات مصراتة الإخوانية، التي باتت مدعومة من ضباط وجنود الاحتلال التركي والمرتزقة السوريين، ما دفع ميليشيا ثوار طرابلس إلى الإعلان عن تحالفها مع ميليشيا لواء النواصي ضد ميليشيا باش أغا وبدء التحرك ضد مرتزقة أردوغان السراج، وهو ما يعنى أن طرابلس مقبلة على حرب ضروس أخرى تدور رحاها هذه المرة بين ميليشيات طرابلس من ناحية وميليشيات مصراتة، التي سبق طردها من العاصمة قبل أن تعود مرة أخرى لمؤازرة حكومة السراج في حربه ضد الجيش الوطني الليبي.
نقلا عن البوابة نيوز