بداية لابد من التأكيد على أن كل نفس بشرية مقدسة بقدسية نفخة روح فيها؛ أيا كان الدين أو العرق أو اللون الذي تنتمي إليه، فالإنسان مخلوق من روح الله لا يملك أحد، غير الله سبحانه، أن يمس حياته، ولا يحق لأحد أياً كان موقعه، أو مكانه، أو مكانته أن ينال من حريته وكرامته؛ إلا بما يفرضه القانون الذي ارتضى الخضوع له الجميع. فلا تبرير، ولا أعذار في قتل الإنسان، أو تقييد حريته؛ أيا كان اسم هذا الإنسان، وأيا كانت جنسيته، وأيا كان دينه.
بالأمس القريب أُغتصبت، وقُتلت الصحفية البلغارية فيكتوريا مارينوفا، فخرج وزير خارجية دولتها ينفي بعد ساعة من اكتشاف جثتها أي علاقة لهذه الجريمة بمهنتها، ويؤكد أنها جريمة عادية، وفي الثاني عشر من أكتوبر الجاري، وتحديداً بالأمس، وبعد اختفاء الأستاذ خاشقجي بعشرة أيام كاملة، تخرج منظمة مراسلون بلا حدود بتقرير عن قتل الصحفيين في العالم؛ يؤكد أن عدد الصحفيين الذين قتلوا من بداية يناير 2018 حتى بداية أكتوبر 2018 وصل الى 56 صحفياً، وبذلك فاق عددهم في سنة 2017 كاملة؛ الذي كان 55 صحفياً، وأن نصف هذا العدد مات في الحروب، والنصف الآخر تصفيات واغتيالات سياسية، سواء من دول، أو من مؤسسات في دول، أو من قوى سياسية فضحتها الصحافة، وأن هذا القتل حدث في دول عديدة من روسيا الى أفريقيا الوسطى، ومن ولاية نيوهامبشير في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مالطة، ومن المكسيك على حدود الرئيس ترامب الجنوبية إلى مختلف دول أمريكا الجنوبية.
في كل هذه الحوادث لم يتحرك العالم أصلا، ولم تهتم الصحافة الدولية بنفس الصورة التي حدثت مع الأستاذ خاشقجي، ولم تصدر تصريحات عن رؤساء دول كما حدث مع الأستاذ خاشقجي، مع ملاحظة أن جميع هؤلاء الصحفيين قد قُتلوا فعلاً، وكانت جرائم قتلهم مثبتة بصورة قاطعة؛ لأن جثثهم كانت في الشوارع، أما الأستاذ خاشقجي فكل هذا الغضب والفوران العالمي حدث على افتراض أنه قُتل، ولم يتم إثبات قتله حتى هذه اللحظة، ورغم ذلك انشغل بقتله المفترض معظم رؤساء العالم الغربي…. فلماذا كل هذه الخصوصية للسيد خاشقجي؟ في الحقيقة، ومع كل الاحترام والتقدير للسيد خاشقجي، فهو صحفي عادي مثله في الدول العربية الآلاف الذين أفنوا أعمارهم مراسلين، أو محررين، أو مصححين، أو لاهثين وراء لقمة العيش، ولكن القوة الناعمة للدولة السعودية، وما تملكه من مؤسسات صحفية عالمية؛ هي التي أعطت للسيد خاشقجي هذه الفرصة ليكون مراسلاً صحفياً معروفاً، خصوصاً عندما تم إرساله لمرافقة أسامة بن لادن في حرب الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي، ثم بعدها عاد ليترأس تحرير جريدة سعودية، وهو في عمر وخبرة مبكرة، لو كان في بلد عربي آخر كان حلمه أن يحصل على عضوية نقابة الصحفيين كصحفي مبتدئ، وليس رئيس تحرير صحيفة، ذلك الموقع الذي لا يصل إليه إلا من تجاوز الخمسين أو قاربها.
إذن السيد خاشقجي صناعة سعودية خالصة، في بداياته، وكذلك في نهاياته، فلم يعرف عنه أنه صحفي عالمي يهتم بقضايا الكوكب، فقد تحول إلى ناشط سياسي حزبي ينتمي لجماعة دينية هي الإخوان انتماءً سياسياً أو مصلحياً؛ يعارض دولته السعودية، ويعادي الدول التي تعادي الإخوان، ويصادق من يصادقهم في قطر وتركيا، حتى في هذا لم يكن في مستوى عبدالباري عطوان من حيث الحرفية الصحفية، حتى وإن كانت تلك الحرفية للبيع في سوق النخاسة، ناهيك عن أن يكون في مستوى روبرت فيسك، وريتشارد هيرست، فكل رصيده جاء من كونه سعودياً يجيد الإنجليزية يعارض الحكم في السعودية.
ومن هنا يعود السؤال مرة أخرى لماذا كل هذه الحمى الدولية المشتعلة، والمنشغلة بمصير السيد خاشقجي؟ … وهنا لا يمكن القول إن هذه الدول، وهؤلاء الزعماء، والرؤساء أصحاب مبادئ، يدافعون عن الصحافة وحرية الرأي، فالرئيس ترامب هو أكثر من يحتقر الصحافة والصحفيين، وكذلك ماكرون ورئيس الوزراء الكندي وغيرهم…جميعهم لو كانوا يهتمون بالمبادئ لسمعنا أصواتهم في حوادث مماثلة قُتل فيها صحفيون. الحقيقة أن مشهد السيد خاشقجي هو نموذج متميز لتوظيف المبادئ لتحقيق المصالح، فجميع من تدخل في هذه القضية من الإمارة الميكروسكوبية قطر إلى الولايات المتحدة، ومن أردوغان إلى ماكرون هم أصحاب مصالح؛ يسعون لتحقيقها بالتستر خلف المبادئ لخداع العالم، وتحويل مواقفهم المادية الجشعة المشينة، إلى مواقف إنسانية نبيلة.
أمريكا تريد مزيدا من الابتزاز للمملكة العربية السعودية من خلال قضية السيد خاشقجي، وتركيا تسعى للانتقام من الحكم السعودي الذي قاد عملية إفشال مشروع الإخوان، الذي كان بمثابة تمهيد لعودة الخلافة العثمانية الجديدة بقيادة السلطان أردوغان، وقطر تسعى للانتقام من ولي العهد السعودي من خلال توظيف قضية السيد خاشقجي توظيفا يحوّلها إلى جريمة بإشراف الأمير محمد بن سلمان شخصياً، وفرنسا تريد أن تحصل على مكاسب؛ فكما صرح ماكرون: “إن السعودية ليست “زبوناً” كبيراً لفرنسا”، فلذلك ينبغي أن يكون بعد قضية السيد خاشقجي، ورئيس وزراء كندا يريد توظيف القضية للمساومة على العقوبات السعودية ضد كندا بعد تصريحات وزيرة الخارجية الكندية.
إذن كل قضية السيد خاشقجي أنه “صار قميص عثمان” لكل لقيط ابن أبيه، من أمراء بني أمية المعاصرين مثل زياد بن أبيه، لتحقيق المصالح التي لا يمكن إعلانها بصورة مباشرة، ولو لم يكن السيد خاشقجي سعودياً، ما سمع عنه أحد حتى عصر يوم القيامة؛ بعد انصراف الناس من الحساب الأخير. نقلا عن العين الإخبارية