لعبة “الاتصال” بعيدا عن “آدم وحواء”


منذ هيمنة شبكة الإنترنت على الحياة اليومية للإنسان.

انقسم وجوده وواقعه إلى شقين، واقع افتراضي وآخر حقيقي يصارع لإثبات أهميته، بعدما أهملته البشرية بشتى فئاتها العمرية والثقافية.

في البدء، انبثق الواقع الحقيقي مع تفتح جفنَي آدم على “صورةٍ ملونةٍ بالتأكيد”، لا ندري ما اللون أو الألوان، لكنه حتماً رأى لوناً ما، فلا يمكن للعقل البشري حتى تخيل “اللا لون”، ربما كان البُنّي الصحراوي أو الأبيض الثلجي، وقد يكون صورة متعددة الألوان رسمت على خلفية خضراء، أو غير ذلك، لا شيء أكيد، فلا نعرف ماهية المكان الذي حطت قدماه عليه، ولا نعلم إن كان في بطن آدم سُرّةٌ أم لا، ومَن جاءت أولاً: البيضة أم الدجاجة؟ 

مصدر الإجابات عن هذه التساؤلات، إنْ وجدت، هو من الموروث البشري أو الديني غالباً.

ولكن لنا الافتراض بأن أول عملية اتصال على كوكب الأرض بدأت بآدم، فكانت الطبيعة المرسلَ وآدمُ المتلقي، وكان اللون الوسيلةَ، فتَدفق التواصل الاجتماعي، معلنا نفسه جزءاً من الواقع البشري مع لقاء آدم بحواء.. لا نعلم اللغة، التي تواصلا بها، أكانت إيماءات حواء أم تعابير التعجب التي بدت على آدم حينما نظر إلى عينيها، أم أنه التقى بمخلوقات غريبة أو حيوانٍ ما قبل لقائه بها، لا نعلم ولكنه بالتأكيد رأى كائناً ما.

مرت ملايين، وربما مليارات، السنين على عملية الاتصال البشري، إلى أن جاء الأنبياء معلنين عن نوع جديد من الاتصال مع الخالق، ثم جاء المسيح معلناً عن تطور عملية الاتصال مع الخالق من خلال “معتقد التجسّد”، لسنا هنا بصدد الأديان، ولكن هي حقبات التاريخ التي وجب ذكرها لمجرد عرض تطور عملية الاتصال.

وبعد ألف وستمائة عام، تقريباً، شهدت البشرية ولادة الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت”، الذي نسف الفرضية التي تقول بأن أولى عمليات الاتصال بدأت بين آدم والطبيعة وبواسطة الألوان، عبر طرحه المذهب العقلاني ونظرية الشك ومبدأ الكوجيتو، والذي انطلق منه لإثبات الحقائق بالبرهان، والمعروف بالقضية المنطقية “أنا أشك إذاً أنا أُفكر.. أنا أفكر إذاً أنا موجود”.

عندما تأمل أحدهم، في القرن الحادي والعشرين، نظريات ديكارت المنطقية، طرأ على باله تساؤل يلفه الشك بكل شيء، فقال: “بما أنه من الثابت علمياً أن الحواس الخمس للإنسان ترسل إشارات للدماغ تمكننا من معرفة وتحديد ما نراه وما نلمسه ونشتمه أو نتذوقه ونسمعه، فما الذي يدريني أو يثبت لي بأنني لست مستلقياً في مكان ما، أوصلني أحدهم بأجهزة ترسل ذات الإشارات، التي ترسلها الحواس الخمس، فيترجمها دماغي على أنها ذلك الملمس وذاك الطعم وتلك الرائحة وذاك الصوت الذي أسمع وهذه الألوان التي أرى، وما الذي يثبت وجودي في هذا المكان إن كان من الممكن أن تخدعني حواسي؟ 

وبقي في حيرة من أمره إلى أن أدرك بأنه في حوار مع طرف آخر يسمع صوتاً وهمسات وإشارات في نفسه، فعرف أنها ذاته، فاطمأن قلبه وتأكد من وجوده في المكان الذي كان فيه، “ديكارت” أثبت للبشرية وجودها وأقنع الجميع بأن أول عملية اتصال حقيقي كانت بين آدم وذاته. 

بعد بضعة قرون، وتحديدا في عام 1714، اخترع “هنري ميل” الآلة الكاتبة، معلناً نوعاً جديداً من الاتصال الجماهيري بعد أن كان يقتصر هذا النوع من الاتصال على الخُطب والمحاضرات والاجتماعات المباشرة بين الناس، ثم تطورت على يد كل من “كارل درايس” ثم “وليام بيرت” باختراعه آلة “تيبو جرافر” الطابعة.. كانت الآلة الكاتبة بداية للثورة الصناعية والعلمية، فقد مكّنت كل مفكر من نشر أفكاره ونظرياته العلمية والفلسفية إلى التيارات السياسية المتنوعة، وفي ذات الحقبة ثار الأوروبيون على الكنيسة، وانتشرت طباعة الكتب والصحف والمعلومة بشكل عام بين أيدي عامة الشعوب، وظهرت النظريات العلمية والفلسفية التي صعّدت وتيرة التطور العلمي، بدءاً بـ”فرويد” ونظريات التطور عند “داروين” وصولاً إلى الماركسية وغيرها، ثم اندلعت الثورة الفرنسية، التي كانت شرارة الديمقراطية، وتمكن “ماركس” و”إنجلز” و”هيجل” من نشر الفكر الاشتراكي ندًّا للرأسمالية، ثم تمخّضت الثورة العلمية لتلد الآلة العسكرية، التي أدخلت البشرية في حربين عالميتين طاحنتين، ووصلنا إلى الحرب الباردة وسباق التسلح بين قطبي العالم، السوفييتي والأمريكي… وهكذا وصولاً إلى العام 2021 الحالي الذي يعاني من اجتياح فيروس كوفيد-19 للدنيا، ذاك الفيروس الذي يكاد أن يكون فكرة أقرب من كونه مادة، وذلك لصغر حجمه، ولانعدام وجود وسيلة للاتصال به تعذَّر على الإنسان وضع حدٍّ لانتشاره.

بعد كل ما ذكر آنفاً، وبعد معرفتنا بأن الواقع الافتراضي أمسى موازياً للواقع الحقيقي في كل شيء، ومبشراً بمستقبل تحكمه الآلة بتقنياتها المتطورة، أليس جديراً بنا طرح التساؤل عن هوية “آدم وحواء الواقع الافتراضي”؟ ما الألوان والمخلوقات التي رآها كلاهما؟ ومَن هم أنبياء ذلك الواقع ومَن سيكون “ديكارتُه”؟ وأي حروب عالمية ستطحننا فيه؟ وأي كورونا سيجتاح حياتنا الافتراضية؟ أجابني أعرابي متسائلاً: أتراهم كائنات فوق بشرية؟

Exit mobile version