كيف صنّف حسن البنا “الآخر” غير الإخواني؟
في سبيل سيطرته على الحياة الاجتماعية، أقام حسن البنا منظومة فكرية جديدة، تسعى لتمييز جماعته بل تقدّسها، وفي الوقت نفسه؛ تستهين بالآخر وتسفّهه، والآخر قد يكون حزباً أو فكراً أو مؤسسةً أو قانوناً، المهم أنّه يقف على الجانب الآخر من الإخوان، فأعطى البنا لنفسه ولجماعته من بعده الحكم عليهم بالإدانة دائماً.
الحكم على الأفراد
صنع البنا منظوراً يحكم به الإخوان على الناس، ومن الواضح أنّه استمر معهم إلى اليوم، والركيزة الأساسية في هذا المنظور هي تصنيف الناس، فكلّ من ليس في جماعتهم هو متهم، وكلّ من لا يقتنع بفكر حسن البنا هو متهم، قالها حسن البنا في رسالة “هل نحن قوم عمليون”، عندما أراد أن يردّ على سؤال ورد إليه فكتب: “ورد إلينا سؤال يقول: هل هذه الجماعة جماعة عملية؟ وهل أعضاؤها قوم عمليون؟ فقام على الفور بتصنيف السائل كالآتي: “وهذا السائل أحد أصناف:
- إما شخص متهكم مستهتر لا يعنيه إلا أمر نفسه، ولا يقصد من إلقاء هذا السؤال إلا أن يهزأ بالجماعات والدعوات والمبادئ والمصلحين (يقصد ذاته وجماعته)؛ لأنّه لا يدين بغير مصلحته الشخصية (اتّهام مباشر للسائل رغم أنّه سؤال بريء جداً)، ولا يهمه من أمر الناس إلا الناحية التي يستغلهم فيها لفائدتهم فقط.
- أو هو شخص غافل عن نفسه وعن الناس جميعاً؛ فلا غاية ولا وسيلة ولا فكر ولا عقيدة.
- وإما شخص مغرم بتشقيق الكلام وتنميق الجمل والعبارات وإرسال الألفاظ فخمة ضخمة ليقول السامعون إنّه عالم، وليظنّ الناس أنّه على شيء، وهو ليس على شيء، وليلقي في روعك أنّه يودّ العمل ولا يقعده عن مزاولته إلا أنّه لا يجد الطريق العملي إليه، وهو يعلم كذب نفسه في هذه الدعوى، إنّما يتخذها ستاراً يغطي به قصوره وخوره وأنانيته وأثرته.
- وإما شخص يحاول تعجيز من يدعوه ليتخذ من عجزه عن الإجابة عذراً للقعود بالعلة
للخمول والمكسلة، وسبباً للانصراف عن العمل للمجموع (1).
قام حسن البنا بتوجيه كمّ من الاتهامات للسائل لا لشيء إلا أنّه تجرّأ وسأل! هذه الاتهامات لا ليهرب من الإجابة، بل هي تصوره الذهني للآخر، الذي لا بدّ من أنّه لا يحبّ الإسلام، ولا يكتفي البنا بسيل الاتهامات إذ أردف قائلاً: “وليس لنا مع هذه الألوان من الناس قول وليس لهم عندنا جواب إلا أن نقول لهم: “سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين”، وما لهؤلاء كتبنا ولا إياهم خطبنا”(2)، عصبية غير مبررة واتهامات تتنافى من التسامح الإخواني المزعوم، ويستمر البنا في تصنيف الناس بحسب اقترابهم من الجماعة؛ ففي رسالة دعوتنا التي كتبها العام 1935، يقول: “وأريد من الناس أن يكونوا أصنافاً أربعة:
- مؤمـن: وهو الشخص الذي آمن بدعوتنا وصدّق بقولنا وأعجب بمبادئنا.
- متـردّد: وإما شخص لم يستبين وجه الحق، ولم يتعرف معنى الإخلاص والفائدة.
- نفـعي: وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مغنم.
- متحامـل: وإما شخص أساء فينا ظنه وأحاطت بنا شكوكه، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك، ويأبى إلا أن يلج في غروره ويسدر في شكوكه ويظلّ مع أوهامه”(3).
البنا حكم على الناس بأنّهم أربعة أصناف، وليسوا خمسة أو ستة، ثمّ جعل الأول “المؤمن” أي عضو الإخوان، أما الثاني والثالث والرابع فهم الآخر من غير المؤمنين بالإخوان، وهم (المتردد- النفعي- المتحامل)؛ أي أصحاب الصفات السلبية الرديئة، وهذا هو حكم الإخوان على الآخر؛ إما متردد أو نفعي أو متحامل، ولا يوجد في ذهنهم مكان لرابع، مثل شخص غير مقتنع بفكر الإخوان.
يصل البنا إلى مراده من تصنيف الناس، باعتبار الآخر ليس مسلماً، فيقول بكلّ وضوح في رسالة إلى الشباب؛ حيث يقول: “إنّنا نعلن في وضوح وصراحة أنّ كلّ مسلم لا يؤمن بهذا المنهج ولا يعمل لتحقيقه لا حظّ له في الإسلام”(4) نفي الإسلام عن الآخر هو بداية التكفير، وإن كان مستتراً عند البنا إلا أنّه في مراحل تالية سيكون أكثر وضوحاً.
الحكم على الهيئات
لا يقف منظور الإخوان عند الحكم على الأفراد؛ بل يمتدّ إلى كلّ هيئات المجتمع، فحكم البنا على الأحزاب (كلّ الأحزاب وأيّ أحزاب) بأنّها لا تملك برنامجاً ولا تصوراً، وأنّهم جميعاً يبتغون مصالح شخصية، فيقول في رسالة: والإخوان المسلمون يعتقدون أنّ الأحزاب السياسية المصرية جميعها قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي، وشرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعاً، ويعتقدون كذلك أنّ هذه الأحزاب لم تحدّد برامجها ومناهجها إلى الآن(5).
هكذا نزع حسن البنا عن الحزبيين نضالهم ضدّ المستعمر، واتهمهم في نياتهم، ثم يستكمل البنا رؤيته بقوله: “الإخوان المسلمون يعتقدون كذلك أنّ النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر”، “لكنّهم يعتقدون أنّ من قرارة نفوسهم أنّ مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلّها”.
رفض سلطة القانون
يرفض البنا سلطة القانون، تحت مزاعم أنّه قانون وضعي، وينظر إليها كقرين للكفر، وكأنّ هناك قوانين دينية منزلة من السماء في كافة شؤون الحياة، وأنّ المسلمين انصرفوا عنها، وقام بنشر هذه الفكر لتحارب دولة القانون، رغم أنّ دولة القانون تعمل على تماسك المجتمع وتمنع تفسخه، لكنّ البنا جعل أتباعه يؤمنون بأنّ تلك القوانين هي المعادل الموضوعي للكفر في العصر الحديث فيقول: “على أنّ هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه، الذي يقرّر أنّ دين الدولة هو الإسلام، فكيف نوفّق بين هذَين يا أولى الألباب؟”، “فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام، ثم رأى نفسه محكوماً بقانون يصطدم معها؟”(6).
أورث البنا هذا المنظور لأتباعه من بعده، وظلوا يروجون لأنّ الحكم بالقوانين الوضعية ضدّ الدين، ولم يقدموا قوانين إلهية، وحتى ما يقدمونه من قوانين زعموا أنّها قوانين متوافقة مع الدين فهي وضعية وضعها بشر!
لا يحترم حسن البنا الدعوات الاجتماعية العالمية، ولا النظريات الاجتماعية الحديثة؛ بل يقف منها موقف الممانع، فنجده يقول: “موقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب وبلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا؛ فما وافقها فمرحباً به، وما خالفها فنحن براء منه ونحن مؤمنون بأنّ دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءاً صالحاً من أية دعوة إلا ألمّت به وأشارت إليه(7).
آثار هذه المنظومة المعرفية
الاستعلاء على الناس: يستعلي الإخوان وجميع مكونات (الحالة الإسلاموية) على الناس؛ حيث وقر في وجدانهم أنّهم أفضل، وأنّهم مختارون من الله، فهم مثل أتباع رسول الله، وأنّهم يملكون إيماناً يقظاً، وغيرهم يملك إيماناً نائماً، وأنّهم يملكون فهماً صحيحاً، وغيرهم يملك فهماً ناقصاً أو معطوباً.
سؤال التكيف مع المجتمع: نتيجة الاستعلاء؛ أصبح من العسير على الفرد الإخواني أن يتكيف مع مجتمع يرى أنّه أقلّ منه فهماً، ويستحيل أن يتقبل منهم نصحاً أو نقداً أو مراجعة، فيبدأ في الانعزال الشعوري عن المجتمع.
نشوء فكرة جاهلية المجتمع: بعد الاستعلاء على المجتمع، وسوء التكيف معهم، صدر الحكم النهائي على المجتمعات المسلمة، وهي أنّهم ليس لهم حظّ من الإسلام، أو أنّهم يعيشون الجاهلية الثانية، أو أنّ مساجدهم هي معابد وثنية.
استسهال الكذب وتبريره: من أخطر الصفات لدى أيّ عضو في جماعة الإخوان قدرتهم على الكذب بكل صدق وإيمان، فبعد إيمانهم بأنّهم جماعة المسلمين، وأنّهم حَمَلة لواء الإسلام من بعد رسول الله، فيكون لهم الحقّ بالكذب عليهم، ومبررهم أنّ هذا الكذب حماية للإسلام، ودفاعاً عنه.
تشجيع العنف والتطرف: ونظراً لأنّهم دعوة الإسلام في القرن الحالي، وأنّهم يعيشون وسط مؤامرة كونية، وأنّهم الفئة المؤمنة، وأنّ أيّ قرار من شأنه الحدّ من تمدّدهم، يفسرونه بأنّه ضدّ الإسلام، فإذا تمكّنوا من منعه بأيّة وسيلة كانت، مثل القوة والعنف والإرهاب، فهذا انتصار لله ورسوله، وإن لم يتمكنوا من منعه فهم، على الأقل، يشجعونه ويبررونه، ومع التبرير والتشجيع يمهدون لمزيد من هذه العمليات.
الجاهزية لتقبّل تنفيذ أعمال تخريبية: مع كثرة تشجيع الإخوان لعمليات العنف، والبحث عن مبرر لمن قام به، أوجدوا بيئة إسلامية تطمئن إلى أنّ ما يقوم به من عنف، إنما هو عملٌ صحيح وسليم، والاعتراض الوحيد عليه هو توقيته، مما يدفع كثيرين من الشباب المتأثرين بأفكار الإخوان بالاندفاع في ممارسة العنف.
نقلا عن حفريات