كيف زيّفت الجماعات الإسلامية وعينا بالتراث؟
لا يُمكن الفصل بين تراث أيّ أمّة وواقعها؛ فالماضي حاضر فينا ومن خلالنا، رضينا أم أبيْنا، غير أنّ الإشكالية في طريقة استدعاء التراث، وما يصحبها من محاولات تفكيك الحاضر وإعادة بنائه من جديد وفق صورة مثالية متخيلة عن الماضي، تكمن في تلك الأفكار التي تسرّبت إلى ثقافتنا من خطاب “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين”، التي قدّمت الآخر على أنّه الضّال، المغضوب عليه، عدو الله ورسوله، الواجب على المسلمين إنزال الخزي به حتى تُشفى صدور المؤمنين، فاختزلوا سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، في صورة المُحارب الذي يخرج من غزوة ليدخل في أخرى، محاولين منح مشروعية لأفكارهم الصدامية، متجاهلين الأدوار الاجتماعية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لها أثر كبير في نشر قيم التسامح والعدل والحرية، وأنّ المواجهات العسكرية التي خاضها، صلى الله عليه وسلم، فُرضت عليه فرضاً، من قومٍ رفضوا حقّ المسلمين في الاختلاف، وسَعَوا إلى إبادتهم.
ومن الاستدعاء الخاطئ للتراث، في خطاب “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين”؛ تقديم الإسلام كحركة عسكرية ودعوة استئصالية، حيث يرتهن انتشاره باستئصال الآخر واستعادة الأراضي التي حكمها المسلمون زمناً، فتبنّي مثل هذه الفكرة يُدخلنا في صراع ديني لا ينتهي؛ فإن كان للمسلمين، وفق هذا المنطق المغلوط، حقّ تاريخي في إسبانيا تبعاً لتدين أهلها بدين الإسلام في حقبة من الزمن، سيكون لأتباع الديانة البوذية حقّ تاريخيّ في إندونيسيا، أكبر دول المسلمين من حيث تِعداد السكان، استناداً إلى أنّ البوذية ديانتها السابقة على الإسلام.
وأنتج اعتماد الجماعات على الوعاظ في قراءة التاريخ، وعياً زائفاً به، فبدلاً من أن ينظروا بعين الناقد لتراث المؤرخين المسلمين، ساروا على خطاهم متخذين من أسفار العهد القديم والإسرائيليات مصدراً أصيلاً لحكاية التكوين وبداية الخليقة، منذ آدم، عليه السلام، وحتى القرون الأولى للميلاد، وما تخللها من قصص الأنبياء والصالحين والآثمين، بهدف الوعظ، مدفوعين بالفضول لمعرفة تفاصيل ما أجمله القرآن الكريم، ففتحوا باباً للأسطورة والخُرافة لم يُغلق حتى اليوم، فالهوّة كبيرة بين التاريخ الذي يُقدّمه وعّاظ الجماعات، والتاريخ الذي يكتبه الباحثون والعلماء.
وإذا كان المؤرخون القدامى معذورين، بأنّ لغة العلم في عصرهم لم تعرف الحفريات والوثائق وغيرها من المعطيات العلمية، فلا عذر لوُعّاظ الجماعات اليوم، عندما أغفلوا آثار حضارات الشعوب القديمة؛ من فينيقيين وبابليين وسومريين ومصريين، الناطقة بالكثير من الوقائع والأحداث، التي تناقض الرواية التوراتية للتاريخ، مكتفين بترديد ما نقله التراث من روايات العهد القديم دون تمحيص، فالتسليم بمكانة العهد القديم الدينية والأدبية، لا تجعل منه وثيقة تاريخية يُعتمد عليها في إصدار أحكام علمية.
ولا تتوقف الجماعات عن الخلط بين تاريخ الإسلام “الوحي”، الذي بدأ وانتهى بحركة جبريل، عليه السلام، بين السماء والأرض، وتاريخ المسلمين الذي هو أحداث وتجارب بشرية تاريخية غير مقدّسة، فإطلاق الجماعات تاريخ الإسلام على تاريخ المسلمين، أكسبه مثالية وقداسة زائفة، تستعلي به على الدرس النقدي، والسياقات والملابسات التي صنعت أحداثه، وفي الوقت الذي استعلت “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين” بتراثنا عن النّقد، نجد تراثيين، من أمثال ابن خلدون، الذي شنّ حملة قوية على ما اكتنف التّراث من حكايات وأخبار وأنساب يُنكرها العقل، فيقول؛ “إلا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عن أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونها منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين كانوا بين العرب يومئذ، بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حِمْير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية، التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء؛ مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض، أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام، فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها، كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنّهم بعد صيتهم وعظمة أقدارهم لما كانوا عليه من المقدمات في الدين والملة فتلقيت بالقبول يومئذ” (1).
لقد زيّفت الجماعات وعينا بالتراث عندما رسخّت في ثقافتنا أننا أمام تُراثٍ بوَجْه واحد، فأخفوا عن عمدٍ أوجه متعددة لتراث المسلمين، وقد التفّ القدامى حول ثوابت العقيدة متمثلة في الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، وأركان الإسلام متمثلة في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إلا أنّ ذلك لم يمنعْهم من الاختلاف في الفهم والشرح والتأويل، فتنوَّعَ التّراثُ تبعاً لتنوع اجتهادات المسلمين الأوائل، فاختلفوا حول فهم طبيعة الإيمان، بين من يجعله قاصراً على إيمان القلب ومن يجعله متضمناً للعمل، وتنوّعت تصوّراتهم بين من يرى وجوب الفصل بين الذات الإلهية والصفات، وبين من يُوحّد بينهما، فلم يكن لمجال الاجتهاد في التراث سقف يحدّده، حيث قدّم التراث تفسيرات وتأويلات متعددة للقرآن الكريم، بين متأوّلٍ ينطلق من قواعد اللغة والبلاغة لفهم القرآن الكريم، وبين متمسكٍ بالمعنى الحرفي غير مُنكرٍ لما وراءه من معانٍ.
ولا تتوقف الجماعات عن التصنيف المستمر، والثُنائيات التي لا تنتهي؛ فهم حماة التّراث، المختلف معهم حداثيّ متآمر عليهم، مأجور من الغرب، والإسلام في جانبهم، وغيرهم المنحرف عن صحيح الدين، يُرددون دوماً أنّ الحقّ يُعرف بتضحيات أصحابه، وليس باختبار أفكارهم، حيث يرون التّقدم في تطوير عالم الأشياء، ويسكتون عن تطوير عالم الأفكار، وضرورة استرداد الإنسان المُنتج للأفكار.
إنّ إحداث نهضة حقيقية، يبدأ من تطوير مناهج الدراسات الإنسانية، بما فيها دراسات الفكر الديني، لا الدراسات الطبيعية فحسب، فطريق تحقيق النّمو الحضاري ليس العمران فقط، بل بناء الإنسان، ولا أمل في استعادة الإنسان الذي يبني الحاضر، ونحن ندين بفكرة أنّ كلّ خير في الدنيا انقضى، وأنّ العصور الذهبية في كلّ شيء قد فاتت، وإذا أردنا أن نمضي إلى المستقبل ونعود إلى التاريخ، فنحن بحاجة إلى الوثوق بمنجزات الحاضر الثقافية والعلمية والفنية، لننطلق منها ونطوّرها.
نقلا عن حفريات