سياسة

كيف استغل أردوغان تزييف التاريخ العثماني في ليبيا؟‎


تختلف قراءة الفترة العثمانية في المنطقة العربية بين دولةٍ وأخرى تبعاً لعدّة عوامل، منها قوّة وجود جماعة الإخوان المسلمين في المشهد الثقافي والتربوي والأكاديمي، وعوامل موضوعية تتعلق بالاستعمار الغربي، وهذا العامل تحديداً يؤثر بشكل كبير على نسيان جرائم العثمانيين، بسبب تقادمها، وحلول جرائم الاستعمار بدلاً منها، مثل حالة الجزائر.

إلّا أنّ استغلال أردوغان للتاريخ العثماني كما في الحالة الليبية وشمال أفريقيا، بعد تحريفه، وتقديمه في صورة الجنّة المفقودة، الّتي يعد بها العرب ثانيةً، يجعل لزاماً علينا التصدي له بالقراءة الموضوعية، فالماضي العثماني مليء بالجرائم بحقّ العرب، في جميع الأقطار. وما كاد هذا الجرح يندمل حتّى ظهر أردوغان وأتباعه خاصة من الإخوان لتزيينه! فهل حقّاً عاشت ليبيا، ودول شمال أفريقيا ليالي مجدها تحت الحكم العثماني؟

الغزو الإسباني

دأب العثمانيون الجدد (أردوغان وأتباعه من الإخوان) على ترديد مقولة مفادها أنّ العثمانيين أنقذوا شمال أفريقيا من الغزو الصليبي، فهل هي مقولة صادقة؟

يوحي السرد الأوّلي لدخول العثمانيين شمال أفريقيا بصدق المقولة، لكنّها لا تصمد أمام القراءة الواعية للأحداث، والتي تكشف عن أطماعٍ عثمانيةٍ في التوسّع على حساب الأراضي العربية.

لا تنفصل أحداث الاستعمار الإسباني لطرابلس ووهران وعدّة مدن ساحلية عن الصراع بين العرب والإسبان في الأندلس؛ فعندما انتقل الأندلسيون إلى شمال أفريقيا، بعد طردهم العام 1503، قام هؤلاء بالاشتراك في أعمال القرصنة البحرية ضدّ الثغور الإسبانية، وكانت هذه النوعية من الأعمال في ذلك الوقت متبادلةٌ.

في تلك الأثناء كان العثمانيون قد أحكموا سيطرتهم على شرق المتوسّط، بعد استيلائهم على القسطنطينية العام 1453، ثم على الشام ومصر العام 1517، ثمّ رودس العام 1523. وتزامنت مآسي طرد المسلمين من الأندلس في عهد أوج القوّة العثمانية، إلّا أنّ هؤلاء لم يتدخّلوا لحماية المسلمين بأيّ شكلٍ، وما يتردّد عن مساعدات القراصنة الأخوين عروج (بربروس) فلا يُنسب للعثمانيين، فلم يكن هؤلاء بعد يدينون بالولاء لهم، ولم يفعلوا سوى نقل المسلمين على مراكبهم، مثل غيرهم من مُلّاك السفن؛ إذ كانت عملية النقل تتمّ بإشراف الإسبان، وفق ما ذكره صالح عبّاد في كتابه “الجزائر خلال الحكم التركي”.

لم يلتفت العثمانيون إلى مناطق الشمال الإفريقي عندما تعرّضت للغزو الإسباني، ففي العام 1505 احتلّ الإسبان ميناء المرسى الكبير في الجزائر، ثمّ مدينة وهران العام 1509، ثمّ مدينة بجاية العام 1510، ومدينة طرابلس، ومدينة الجزائر في نفس العام، وهاجم الإسبان تونس.

قاومت الدويلات الحاكمة من حفصيين وبني زيان ومملكة كوكو وأهل ليبيا الإسبان، ودخلت بعض المدن المستقلّة في علاقاتٍ سياسيةٍ واقتصادية معهم، وظلّ الوضع كذلك حتّى مجيء الأخوين بربروس. وعلى الرغم من التفكّك السياسي في المنطقة إلّا أنّها تمتّعت بعلاقاتٍ اقتصاديةٍ متميّزةٍ مع مدن إيطاليا، حتّى الغزو الإسباني، ودخول الأتراك المنطقة، الّذي جرها إلى حلبة الصراع العثماني-الإسباني.

في كتابه يقول صالح عبّاد: “كان للوجود الإسباني والتركي على السواحل الجزائرية انعكاس سلبي على المبادلات التجارية الّتي كانت تتمّ بين الجزائر وأوروبا المطلة على البحر المتوسّط”.

الأخوين بربروس

عمل عروج قبل انتقاله إلى الجزائر قرصاناً، وتعود جذوره إلى جزيرة يونانية، وهو من أم مسيحية وأب تركي مسلم، ومطلع القرن 16 انتقل نشاط القرصنة من الحوض الشرقي للبحر المتوسّط إلى الحوض الغربي، ربّما للسيطرة التركية الواسعة على تلك المنطقة، وعدم وجود قواعد خلفية للقراصنة، مثل تلك الّتي توفرها بيئة الشمال الأفريقي المُفكّكة.

حصل عروج بربروس على حقّ الإرساء والتموُّن في الموانئ التونسية، من حكّامها الحفصيين، مقابل دفع نسبةٍ من غنائمه، ونجح عروج بربروس، وفي معيّته أخواه خير الدين وإلياس في نيل شهرةٍ واسعةٍ، وتكوين أسطول قوي بعد انضمام عددٍ من القراصنة إليه، ممّا شجع أهالي بجاية على طلب المعونة منهم لاستعادة المدينة من الإسبان العام 1512، إلّا أنّ المحاولة فشلّت.

وفي العام 1514 استردّ عروج بمساعدة القبائل العربية مدينة جيجل من الإسبان، وتمّت مبايعته سلطاناً عليها، ولمّا كانت المدينة تابعة للحفصيين من قبل فقد خاف من مطالبتهم بها، فنقل مقرّه من تونس إلى هذه المدينة، وبدأ في الاتّصال بالعثمانيين للحصول على الدعم، وكانت هذه المرّة الأولى لعروج للاتّصال بالعثمانيين، وبغرض حماية مكتسباته، وليس بهدف الجهاد الإسلامي كما يزعم العثمانيون الجدد.

حاول عروج استعادة بجاية ثانيةً إلّا أنّه لم يُوفّق، وعاد إلى مقرّه في جيجل، وهناك جاءه مبعوثٌ من السلطان العثماني، على رأس 24 سفينةً حربيةً، وبذلك دخل العثمانيون شمال أفريقيا.

تكشف قدرة الأسطول العثماني على الوصول بسلامٍ إلى مناطقٍ جديدةٍ عن مقدرةٍ بحريةٍ وصل إليها العثمانيون، مكّنتهم فيما بعد من احتلال رودس، إلّا أنّ ذلك يكشف في الوقت نفسه عن أنّ العثمانيين لم ينظروا لشمال أفريقيا كقضية جهاد إسلامي ضدّ الإسبان، ولم يتحرّكوا لنجدة سكّانها منذ أوّل غزو إسباني العام 1505، ولم يتحرّكوا إلّا حين لاحت لهم فرصة لتحقيق مكاسب كبيرة بدون مجهود كبير، وذلك حين اتّصل بهم عروج.

يؤكّد على ذلك طبيعة الحكم العثماني في شمال أفريقيا لاحقاً، فقد ظلّت ليبيا، وتونس، والجزائر محكومةً من قبل رياس البحر الأتراك (القراصنة)، ثمّ الانكشارية، ولم تخضع للحكم المباشر سوى طرابلس الغرب في العام 1832، وظلّت المنطقة لقرون تخضع اسمياً للعثمانيين، ولا تدفع الضرائب لهم، فلماذا قبل العثمانيون بهذا الوضع؟

الإجابة تعود إلى عدّة أسباب منها: الخوف من التكلفة الكبيرة للسيطرة المباشرة، واتّساع هذه البلاد، وعدم وجود قوى محلّية قادرة على إدارة البلاد لصالحهم مثل المماليك في مصر. وعلى الرغم من اتّصال العثمانيين برّاً بشمال أفريقيا بعد احتلالهم مصر العام 1517 إلّا أنّهم لم يتقدّموا لإنقاذ شمال أفريقيا من الإسبان، وخصوصاً طرابلس الّتي ظلّت خاضعةً لفرسان مالطة حتّى العام 1551.

أطماع عثمانية

لا يُنكر أحد محاربة العثمانيين للإسبان في شمال أفريقيا، إلّا أنّ تلك الحرب جاءت خدمةً لمصالحهم في المقام الأوّل، ونتاجاً لعقيدة الغزو والهيمنة، ويدل على ذلك الأوضاع المزرية الّتي عاشها سكّان شمال أفريقيا تحت الحكم العثماني حتّى تسليمه البلاد للاحتلال الأجنبي.

منذ العام 1516 بدأ عروج التوسّع في شمال أفريقيا لحسابه الخاص، مدعوماً بالعثمانيين، ففي العام 1516 دعاه أهّل مدينة الجزائر لمساعدتهم على طرد الإسبان من حصن البنيون الّذي تحصّنوا فيه. دخل عروج المدينة بمساعدتهم، ثمّ قام باغتيال أميرها العربي سالم التومي الّذي استقبله في قصره، لينفرد بالمدينة ويتّخذها قاعدّةً لنشاط القرصنة، ورغم ذلك فشل في اقتحام البنيون.

يقول صالح عبّاد: “لقد لبّى عروج الدعوة لأنّه وجدها فرصةً لا تُعوّض للسيطرة على مدينة الجزائر الأهم بكثير من جيجل الصغيرة، سواء من حيث عدد سكّانها أو من حيث إنّها كانت مدينة قرصنة، أو من حيث موقعها الّذي يتوسّط سواحل المغرب”، وبعد ذلك تدخّل عروج في صراع أبي زيان مع عمّه أبو حمو على عرش تلمسان، ودعم أبي زيّان، فلجأ أبو حمو للإسبان، وتمكن بمساعدتهم من استعادة العرش، وقُتل عروج العام 1518.

بمقتل عروج في مغامراته التوسّعيّة، انتقلت القيادة إلى أخيه خير الدين في مدينة الجزائر، خوف خير الدين من الإسبان دفعه إلى الاتّصال بالسلطان العثماني سليم الأوّل العام 1519، فبعث إليه رسولاً يطلب الدعم، ويقدّم آيات الولاء، فلبّى العثمانيون طلبه، وبعثوا بفرمان وقفطان التولية له، وعيّنوه حاكماً من قبلهم على الجزائر، وأرسلوا إليه 2000 انكشاري، وفتحوا باب التطوّع للرّاغبين لتشكيل جيش انكشاري في الجزائر، وشمل الفرمان السماح بسكّ العملة باسم السلطان، والخطبة له، وهكذا دخلت الجزائر رسمياً في الحكم العثماني.

متمتّعاً بدعم العثمانيين بدأ خير الدين في إخضاع الإمارات العربية في الجزائر، وتصدّى للإسبان، واصطدم بالحفصيين في تونس، وبعد صراعات عدّة مع مملكة كوكو الجزائرية، انتهت بهزيمتهم العام 1525، خضعت الجزائر كافةً للعثمانيين، ثمّ تبعتها تونس العام 1534، ليفقدها العام 1535 على يد الإسبان، الذين قدموا لإعادة السلطان المخلوع مولاي الحسن الحفصي، وطردوا خير الدين.

إزاء هزائمه ترك خير الدين الجزائر، والتحق بالأسطول العثماني باعتباره قائداً، فقد عينه السلطان سليمان القانوني في المنصب العام 1334، عقب انتصاره المؤقت في تونس. ولاحقاً نجح علج عليّ والي الجزائر في السيطرة على تونس العام 1569، ثمّ استعادها الإسبان العام 1573، ليستعيدها الأتراك العام التالي.

أكاذيب الصلابي

أما عن ليبيا فقد خضعت طرابلس الغرب لحكم فرسان مالطة حتّى هزيمتهم على يد العثمانيين العام 1551. يُردّد المؤّرخ الإخواني اللّيبي علي الصلابي رواية مكذوبة، عن قيام وفدٍ من أهالي مدينة تاجوراء الليبية بزيارة إسطنبول العام 1519 لطلب النجدة من العثمانيين، وبناءً على هذا الطلب تدخّل العثمانيون، واستولوا على طرابلس العام 1551، لكنّ الحقيقة غير ذلك.

هذه الرواية نقلها الصلابي عن ابن غلبون، الّذي عاش في بداية حكم القرمانليين في ليبيا، وكان مقرّباً منهم، فعمل على شرعنة حكمهم، فكان ذلك سبب اختلاقه لهذه القصّة في كتابه “التذكار فيمن ملك طرابلس، وما كان بها من الأخبار”.

وتعليقاً على ذلك كتب المؤرّخ الليبي الشيخ الطاهر الزاوي، ومُحقّق كتاب ابن غلبون ما يلي: “ممّا يشكك في صحّة رواية هذا الوفد أنّ الأسطول العثماني كان موجوداً في البحر الأبيض، وأن القوّاد العثمانيين كانوا يحاربون في الشمال الأفريقي، وفي تاجورة وهذا ما يجعل النجدة قريبةً، توفر على الطرابلسيين مشقّة السفر إلى الآستانة”.

يتّفق محمد بازامه مؤلّف كتاب “ليبيا في عشرين سنة من حكم الإسبان” مع الزاوي، ويقول: “نقطة واحدة في هذا الأمر تجعلنا نتحفّظ في قبول فكرة دعوة أهل تاجوراء هذه؛ تلك هي طول الفترة الزمنية بين سفر الوفد، ومجيء الأتراك إلى طرابلس واشتراكهم في الصراع، والتي امتدّت لأكثر من 10 سنوات”.

يعلّل بازامه اختلاق هذه الرواية بقوله: “يرتكز شكُّنا إذا كان لهذه النقطة قيمةً على أساس ما للدولة العثمانية من مصالح سياسية في اختلاقها ودسّها على التاريخ” وهذه المصالح هي “أنّ الأتراك لم يأتوا فاتحين مستعمرين، وإنّما جاؤوها مُلبّين دعوة أهل البلد، فهم بالتالي أصحاب الفضل في هذا المجيء”.

عادت هذه الرواية المكذوبة إلى تصدّر الواجهة الإعلامية عقب توقيع الاتفاقية الأمنية، واتفاقية ترسيم الحدود، بين حكومة الوفاق في طرابلس، والتي تسيطر عليها جماعة الإخوان المسلمين، ودولة تركيا. فكأنّ لسان حال الصلابي في لقائه مع وكالة الأناضول بتاريخ 9 كانون الثاني (يناير) 2020، يقول إنّ وصول مرتزقة أردوغان، هو بمثابة تلبيةٍ لدعوة أهل طرابلس، كما لبّى أجدادهم دعوتهم لإنقاذهم من الإسبان الصليبيين، وكأنّه يُشبه الجيش الوطني اللّيبي بالغزاة الإسبان.

بعد تصريحات الصلابي انطلقت الماكينة الإعلامية للإخوان، وتركيا لتنشر التصريحات على نطاقٍ واسع، لتبييض صورة الماضي العثماني في ليبيا، ولترويج فكرة أنّ التدخل العسكري التركي سيُعيد إلى ليبيا الجنّة العثمانية المفقودة.

خيانة العثمانيين

لا تنفي القراءة الموضوعية للتاريخ أحداث الحروب العثمانية الإسبانية، إلّا أنّها تضعها في سياقها الحقيقي، وهو الرغبة العثمانية في التوسّع والهيمنة، والّتي تلاقت مع طموح الأخوين بربروس (عروج وخير الدين) في إنشاء دولةٍ لهما في منطقة شمال أفريقيا المُفكّكة.

والسؤال الأهم من محاولة الإخوان شرعنة احتلال قوى أجنبية لبلادهم، وهو أمر دأبوا عليه، حين شرعنوا الغزو التركي لسوريا والعراق، ثمّ الآن ليبيا، هو كيف سقطت شمال أفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر) بيد الاستعمار الإيطالي والفرنسي؟ وأين كان العثمانيون من ذلك؟

الإجابة على هذا تطول، وفي كتب التاريخ ما فيه الكفاية، ويمكن تلخيص مسؤولية العثمانيين عن ذلك بما يلي: أنّ الحكم العثماني لم يُفد شمال أفريقيا شيئاً، بل سخر هذه البلاد لخدمة رفاهية طبقة محدودة العدد من الحكّام والجنود الأتراك. وحوّلوها إلى قواعد للقرصنة، وأرهقوا الأهالي بالضرائب والغرامات، دون تقديم أية خدماتٍ لهم، وتسبّبت القرصنة في جلب العدّاء الأوروبي لشمال أفريقيا، وتعرّضت بسببه مدن الساحل للقصف مرّات عدّة. أدّى فساد الحكم التركي، وتدمير الحياة الاقتصادية، وإثارة النعرات القبائلية لضرب القبائل ببعضها، إلى وقوع البلاد فريسة سهلة في يد الاحتلال.

لم يكتف العثمانيون بتخريب شمال أفريقيا، بل سلّموا الجزائر للمحتل الفرنسي العام 1831، حين قايض الداي حسين الجزائر مقابل خروجه بثروته الطائلة وأسرته إلى مصر، وسلّموا تونس العام 1881 حين قبل صادق باي بالحماية الفرنسية، ورفض قيادة المقاومة. وتركوا ليبيا للطليان بتوقيع معاهدة أوشي العام 1912، الّتي تنازلوا فيها عن ليبيا لإيطاليا، وتخلوا عن المقاومة الوطنية بقيادة السنوسيين، فهل هذه الجنّة التي يُبشر بها أردوغان وحلفاؤه؟

نقلا عن حفريات

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى