سياسة

«كورونا» هنا… وحرب هناك


في أبريل (نيسان) الماضي، توقع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، أن فيروس «كورونا» سيغير النظام العالمي إلى الأبد. وقبل ذلك في عام 1941 خلال أحلك سنوات الحرب العالمية الثانية، قال رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، إن تلك الحرب ستفرض نظاماً عالمياً جديداً إلى الأبد. وفعلاً، فإن المشهد السياسي الدولي ما قبل الحرب العالمية الثانية لم يعد قائماً بعد تلك الحرب النووية.
الملكة إليزابيث الثانية أعادت إلى الأذهان في الأشهر الأولى لانتشار «كورونا» (كوفيد – 19) خطابها في عام 1940 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان عمرها 14 عاماً؛ حيث طالبت مواطنيها بالتحلي بالانضباط والعزيمة اللذين أبداهما الآباء والأجداد في الحرب.
تقريباً كل الملوك والرؤساء الأوروبيين والأميركيين والآسيويين استذكروا في خطاباتهم في عام «كورونا» الأول أجواء الحرب العالمية الثانية. وفي انتباهة مبكرة قارنت الإذاعة البريطانية «بي بي سي» بين كثير من خطابات تلك المرحلة الكارثية التي تكررت في هذه المرحلة الوبائية. وحذرت – مثلاً – منظمة الصحة العالمية من تصاعد ضحايا «كورونا» إلى أعداد تفوق خسائر الحرب العالمية الثانية التي وصفها تشرشل بأنها «مرت بوادٍ مُهلك وحالك الظلمة».
وفي كل الخطابات عن «كورونا» نقرأ أو نسمع عبارات من نوع «المعركة التالية التي تنتظرنا على قمة الجبل»، أو أن أجهزة التنفس الصناعي في حرب «كورونا»: «تشبه ما كانت تمثله القنابل خلال الحرب»، أو أن «يوم الإنزال» في نورماندي الذي مهَّد الطريق أمام الحلفاء للانتصار في الحرب الثانية يشبه «يوم التطعيم» في الحرب الحالية ضد «كوفيد – 19»، أو أن الحرب في الحالتين ضد «عدو خفي»، أو أن الأطباء يقفون «في الخطوط الأمامية»، أو أن عناصر المستشفيات والعزل هم «الجنرالات الجدد» الذين يضعون «خطط المعركة» بينما الحكومات تهيئ «الموارد والجهود»!
لنقلب صفحات الماضي ونقارن: في حرب فلسطين 1948، أعلنت كل الدول العربية المشاركة حالات الطوارئ والإنذار والتطوع. وفي حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أعلنت مصر وسوريا والأردن والعراق التعبئة العامة ودعم الجهد الحربي. في الحرب العراقية – الإيرانية كانت الصواريخ والقنابل تتفجر في بغداد وطهران والبصرة وعبادان وغيرها، مثلما تتفجر في الخطوط الأمامية. وكانت المستشفيات تغص بالجثث والجرحى، تماماً مثلما يحدث في زمن «كورونا»؛ حيث وصل الحال إلى رفض بعض المقابر في العراق استقبال جثث الموتى، وتكدس المصابين في غرف وأروقة المستشفيات. وفي بعض المعارك الفاصلة مثل معركة الفاو أو الشلامجة أو المحمرة، خصص العراق قطارات شبه خاصة لنقل الجرحى والشهداء من المناطق القريبة من الخطوط الأمامية إلى مراكز المدن والعاصمة. وفي الحالة الماثلة أمامنا منذ الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 حتى زمن «كورونا الميليشيات الإيرانية»، انتقلت الحرب إلى كل المدن وإلى كل المنازل والشوارع، بدلاً من ميادين الحرب المسلحة وخنادقها.
ولماذا نتوقف عند دولنا فقط؟ لماذا لا نذهب بعيداً إلى الولايات المتحدة؛ حيث بلغ عدد وفيات فيروس «كورونا» حالياً إلى أكثر من 330 ألف شخص، من بين 18 مليوناً و800 ألف إصابة، تليها الهند بعشرة ملايين و200 ألف إصابة، ثم البرازيل بسبعة ملايين و45 ألف إصابة؟
قبل أربعين عاماً تقريباً، نشر الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز روايته «الحب في زمن الكوليرا» عن رجل ملون يحب امرأة بيضاء، ويموت حبه في العشرين من عمره، بعد أن تتزوج المرأة من طبيب في مستواها الاجتماعي؛ لكن حبه القديم يُبعث من جديد في السبعين من عمره بعد أن يتوفى زوج حبيبته القديم، فيعاود الاتصال بها ويعرض عليها الزواج؛ لكنها ترفض رغم ثرائه الفاحش، ثم توافق على الزواج، ويستعيد الاثنان ذكريات زمن الكوليرا الذي ضرب بلدهما في أول الحب قبل نصف قرن. رواية كولومبية على طريقة الأفلام الهندية أو العربية القديمة، ووصلت شهرتها إلى كل الآفاق، ثم تم إنتاجها في فيلم سينمائي ناجح.
تلقف الروائيون العرب، وربما غير العرب أيضاً، عنوان الرواية والفيلم، وحولوه إلى «الحب في زمن الكورونا» ونسخوه في كثير من كتاباتهم في هذا العام. والوباء الأدبي مثل الوباء الصحي، انتقل من كاتب إلى آخر، حتى وصل إلى السياسة. فقرأنا مقالات عن «السياسة في زمن الكورونا»، و«الاقتصاد في زمن الكورونا»، و«الدولار في زمن الكورونا»، و«الطيران في زمن الكورونا»، و«السياحة في زمن الكورونا»، و«الجريمة في زمن الكورونا». وكل كاتب أو روائي يضع قليلاً من الملح على الرواية الأصلية، بهدف نقل مشاهد الفيلم من زمن مضى إلى زمن نعيشه.
لكن هناك دعوة «ميتافيزيقية» للعودة إلى العصر الحجري؛ حيث الحياة الوحشية الانفرادية التي لا تعرف أي تقارب اجتماعي غير التزاوج الحيواني. ليس مطروحاً ولا معقولاً أن الحياة في ذلك العصر كانت بلا أمراض ولا أوبئة ولا زلازل ولا جائحات. أي أن الحياة فراغ زمني ليست له ملامح ولا دلالات ولا ماضٍ ولا مستقبل. ولندع العصر الحجري جانباً. أمامنا القرون الوسطى التي انتشر فيها الموت، مثل شوارع شيكاغو في سنوات «المافيا» الإيطالية واليونانية. كيف تصرف الناس مع الطاعون الفتاك، أو ما كان يسمى «الموت الأسود»؟ هل وقف الناس في طوابير طويلة أمام حفاري القبور؟ أم أنهم لم يستسلموا وإنما بحثوا في علوم ابن سينا وجابر بن حيان وابن النفيس وأبو بكر الرازي والكندي وابن رشد وابن الهيثم؟ وكل هؤلاء كانوا حكماء العصر الإسلامي الذهبي. وأوروبا تعترف بأن علماءها نهلوا من اكتشافات وجهود العلماء المسلمين الأوائل، وخصوصاً العرب منهم. وقد ساعدت في دورة العِلْم الفتوحات الإسلامية في أوج ازدهار الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية.
أعود إلى ما بدأنا المقال به حول مستقبل النظام العالمي بعد «كورونا» كما توقع كيسنجر، فقد تنبأ بأن الاضطرابات السياسية والاقتصادية الناجمة عن الوباء ستستمر لأجيال، وسينظر العالم إلى مؤسسات دولية عديدة على أنها فاشلة. وأشار إلى أن الظروف الاستثنائية التي صاحبت فيروس «كورونا» استدعت إلى ذاكرته شعوره حين كان جندياً في الحرب العالمية الثانية، وتقدمت فجأة جيوش الألمان في أوروبا، ما دفع الجيوش الأميركية والبريطانية والفرنسية إلى الإحساس بالخطر المحدق الذي لا يستهدف أشخاصاً معينين، وإنما يضرب بشكل عشوائي مدمر. هكذا فعلت «كورونا» في الصين أولاً ولحقتها بقية الدول.
والحديث اليوم ليس عن «كورونا» واحد، وإنما «كورونات» تحت تسمية «سلالات جديدة» متحورة ظهرت في بريطانيا وجنوب أفريقيا وامتدت إلى القارة القطبية الجنوبية التي كانت إلى فترة قصيرة مضت القارة الوحيدة الخالية من هذا المرض المُحَيِّر.
قبل أشهر قليلة، كان المانشيت الرئيسي للصفحة الأولى من «الشرق الأوسط» مذهلاً: 6000000 إصابة «كورونا» في العالم! اليوم نقرأ أن المصابين تجاوزوا 80 مليوناً عالمياً، وأن المتوفين منهم ما يقارب مليوني ضحية. إنها الحرب العالمية الثالثة.
قال نجم الكوميديا العربية الراحل نجيب الريحاني في أحد أفلامه، حين سألوه عن أحواله: «الحال هي الحال». في العراق وسوريا وليبيا ولبنان «كورونا» إيرانية، أو «كورونا» تركية، أو «كورونا حزب الله».

الشرق الأوسط

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى