كما استوحى منها الإيطاليون أغنية أخرى أيام مقاومة الفاشية.
وكلمة “كاتيوشا” هي صيغة التدليل لاسم “كاترينا”، أحد أكثر أسماء الإناث شيوعًا وانتشارًا في روسيا، كما تخبرنا الموسوعات، ولحّن هذه الأغنية ماتفي بلانتر، وكتبها ميخائيل إيزاكوفيكسي في 1938.. وغنتها لأول مرة المغنية الشعبية الروسية ليديا روسلانوفا.
وقد سُمّيت قاذفات صواريخ كاتيوشا، التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، باسم الأغنية التي تقول:
“أيتها الأغنية الساطعة على الصبية العذراء/ طيري إلى حدود الشمس مثل طائر/ إلى الجندي البعيد عند الحدود/ من كاتيوشا أوصلي السلام/ لعله يفكر بالعذراء القروية/ لعله يسمع أغنية كاتيوشا/ وكما يحرس أرض الوطن العزيز/ سوف تحرس كاتيوشا حبهما إلى الأبد”.
هذه الأغنية تطنُّ في آذان العراقيين هذه الأيام، ليست كأنغام موسيقى، بل كانفجار ودخان وحرب تبعث الرعب، فالذين يطلقون الكاتيوشا يدركون أن تأثيراتها التدميرية ليست واسعة، بل تُحدث الهلع في واقع عراقي يمر بمرحلة صعبة، سواء في تشكيل الحكومة أو الانتخابات أو عدم السيطرة على السلاح المنفلت أو الفساد المستشري.
بدأ العراقيون يملّون سماع سيمفونية الكاتيوشا منذ سنوات، ولم تستطع أي حكومة أن تضع حدًا لها، ومعها يشعرون أن الأوضاع باتت غير مستقرة، ولها آثارها الاجتماعية والسياسية.
لم تعد قاذفات صواريخ الكاتيوشا مُزحة في ضرب القواعد الأمريكية والمطارات والمنطقة الخضراء المحصّنة وغيرها من الأماكن الاستراتيجية الحساسة في البلاد. ففي كل مرة، هناك وعيد بمحاسبة مطلقيها، لكنها تفشل في إسكات هذه السيمفونية المزعجة أو وضع حدٍ لها.
أحال الروس هذه الكاتيوشا إلى التقاعد منذ زمن طويل، لكنها في العراق لا تزال مستمرة في وظيفتها وخدمتها.
مهما تكن النتائج، تشكل الكاتيوشا تهديدًا أمنيًا وإرهابيًا بعيد المدى، لأنها مرتبطة بالتنظيمات والأحزاب الولائية لإيران، لأنها ورقة ضغط على الحكومة العراقية في تشكيلها وإشراك العناصر الموالية لها فيها، أو على الأمريكيين في المفاوضات النووية المتعثرة.
لا تفعل الحكومة سوى إرجاع هذه الكاتيوشا إلى “التقصير الأمني” دون أن تذهب إلى المسألة الجوهرية، أي: السلاح المنفلت بيد المليشيات.. فيما يذهب بعض المحللين إلى عدم مصادقة رئاسة الجمهورية على قانون الأحزاب رقم 36 لعام 2015، والذي بغيابه تضاعف السلاح المنفلت، كما تضاعف العجز عن محاسبة مَنْ يمتلكه ويستخدمه.
وبمرور الزمن، أصبحت الكاتيوشا سيدة الموقف الآن، وهي التي تتحدى الحكومة المسؤولة عن حماية المطارات والأماكن السيادية الأخرى، التي صارت هدفًا سهلًا.
الغريب في الأمر أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من كشف أماكن إخفاء هذه الصواريخ، ومن أين تنطلق، رغم الأجهزة الأمنية والاستخبارية الكبيرة، إذ أخذت لا تطال الأماكن العسكرية فحسب، بل المواقع المدنية الآمنة، وتنتشر شظاياها المتناثرة على سطوح البيوت.
يطرح العراقيون التساؤل التالي:
أين يكمن سّر هذه الكاتيوشا المستمرة منذ سنوات؟ وأين الأجهزة الأمنية من ضبطها؟ وما دور الأقمار الصناعية، التي يمتلكها الأمريكيون في الكشف عنها؟ وهل هي في أماكن سرية بعيدة المنال؟
إنها تتحرك بحرية تامة، وتحملها عجلات ومركبات مدنيّة, ليتمّ تركيبها ونصبها في مناطق قريبة من الأهداف التي يُراد استهدافها، كمطار بغداد أو مطار أربيل أو المنطقة الخضراء، بحيث أصبح الناس لا يفرقون بين هذه الصورايخ وصورايخ داعش!
ثمة مَنْ يطرح تساؤلًا آخر: لماذا تقام قواعد عسكرية بجوار المطار المدني، المنفذ الوحيد نحو العالم؟
برزت حرب الكاتيوشا، التي ازدادت حدتها في الآونة الأخيرة لأسباب عديدة، منها انسداد الأفق السياسي والانتخابات التي جعلت بعض القوى تخسر ثقلها في العملية السياسية العراقية، لكن المليشيات الموالية لإيران تنكر قيامها بهذا العمل وتطلب الدليل على ذلك!
في الواقع، إن حرب الكاتيوشا تدشن فصلًا قديمًا وجديدًا من الصراع الأمريكي-الإيراني، والهجوم على مواقع التحالف الغربي وقواعده العسكرية قد ينذر بتعقيد الأوضاع السياسية في العراق، وربما يؤدي إلى التوقف عن الاستثمارات والقروض والوعود التي تقدمها دول التحالف الغربي، وقد تُدخل العراق في نفق مظلم.
الأحزاب الموالية لإيران لا تمتلك سوى ورقة إطلاق صواريخ الكاتيوشا، لأنها ببساطة أذرعها التي تسبب الاضطراب السياسي وتهدد السلم الأهلي، إضافة إلى انتهاك السيادة الوطنية.
تشكل صواريخ الكاتيوشا الأخيرة تصعيدًا كبيرًا من قبل الطائفية.. ولعل هذا من أصعب الملفات التي تواجه الحكومة العراقية سواء قبل الانتخابات أو بعدها.
أمام الحكومة العراقية المقبلة مشكلات جمّة لا يمكن حلها ببساطة: مكافحة الفساد، تأمين الكهرباء، وغيرهما.
ما لا شك فيه أن صوارخ الكاتيوشا الأخيرة عملت على خلط الأوراق في وقت حرج للغاية لتشكيل الحكومة وصراع القوى عليها.
حرب الكاتيوشا لعبة سياسية خطرة يحرك خيوطها من وراء الكواليس خبراء في الحرب النفسية في وقت تحتاج فيه الأحزاب، التي تهمين على المشهد السياسي، إلى مراجعة حساباتها، لأن مصلحة “العراق الآمن” هي الأمر الجوهري في هذه المرحلة العصيبة.